اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. مقالات
  3. مؤسسات قديمة وهويات رقمية جديدة

مؤسسات قديمة وهويات رقمية جديدة

د. منصور الشمري الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف – “اعتدال”

عرف العالم عبر تاريخه الطويل تحولات عميقة، هزت بنيته العامة، وأحدثت في مساره قطائعَ وعتبات تفصل بين عادات قديمة كانت سائدة ومقبولة، ومستجدات طارئة ومبتكرة. لكن حدوث هذه الهزات الكبرى في مساراته لم يتضمن بالضرورة قدرة الجميع على استيعابها في الوقت المناسب، فهناك من ينتبه بسرعة إلى مدى أهمية هذه النقلات الكبرى، فيسعى إلى أن يُكيِّف منظوره ومهاراته لأجل الاستجابة لمقتضياتها. وفي المقابل، هناك من يقاوم القبول بذلك، متشبثاً بالإرث السابق، ومتهماً كل من يدعو إلى المراجعة بالعدوان على ما لا يصح المساس به. هذا ما عاشه العالم مثلاً، إبان اكتشاف الطاقة البخارية التي غيّرت مفهوم القوة ومفهوم المسافة براً وبحراً، فهناك من أهَّل نفسه بسرعة للانخراط في التغيير، وهناك من ظل مستمسكاً بالأدوات الحِرفية التقليدية، وبالمراكب الشراعية التي فقدت معناها بعد حدوث هذه النقلة الحضارية الكبرى.

ويبدو أن ما يطال الحياة الإنسانية في عصرنا الراهن، من مؤثرات النقلة الرقمية النوعية التي خلقت أبعاداً جديدة في الوجود الإنساني، يجعل من الصعب على المفاهيم التقليدية مجاراتها من دون أن تخضع لإعادة تفكير جريئة، تعترف بأن ما نعيشه حالياً ليس مجرد إضافات تقنية جديدة لما هو قائم، بل هي بالأحرى عتبة تَحولٍ ستَتَكَشّفُ ملامحها بعد حين، كي ترسم عالماً جديداً كلياً تتداخل فيه عناصر الحياة مع المعالِجات الدقيقة والقوية، والخوارزميات المعقدة وفتوحات الذكاء الصناعي، مع القيم الأخلاقية، والمسؤوليات القانونية، والمراجعات الإنسانية المرتبطة بتصورات العالم وأطره المرجعية، وهذا ما يفيد بأن الهزّة الكبرى للتغيير ستجتاح بالمعنى الحرفي كل مناحي الحياة، بما في ذلك طبيعة الهوية الإنسانية ذاتها.

هذا التغيير أضحى أمراً مصيرياً بالنسبة لفئة الشباب التي سيُقَدَّر لها أن تعيش لمدة طويلة من عمرها مع هذا العالم الذي يتوّلد بشكل سريع في سياق من التوترات والأزمات العالمية الاستثنائية، لعل أبرزها وضعية جائحة «كورونا» التي من الواضح أنها ستصبح لسنوات طويلة جزءاً من المعطيات الواقعية للحياة اليومية للناس. يتضمن هذا أن مشاريع الحياة لدى الشباب أصبحت متداخلة مع المصير الرقمي لبلدانها، وكذلك المنظومة القيمية التي تؤطرها، فلا يمكن بحال أن تنفلت من هذه القبضة الرقمية التي أصبحت تمس تفاصيل الوجود الإنساني، وعلى الخصوص هذه الفئة العمرية التي تشكّلت ذهنيتها منذ الطفولة داخل العنصر الرقمي، تربية وتدريباً وتفاعلاً وإحساساً، وبالتالي فإن أي سياسة تأطيرية للشباب، تزعم قدرتَها على تدبير التواصل معهم انطلاقاً من الأطر المؤسساتية التقليدية، سيكون عليها أن تواجه فشلاً محتوماً، إذا لم تنتبه إلى خصوصيات ما يمكن دعوته بالجيل الرقمي الجديد التي يمكن اختزالها في المسألة التالية:

– تجاوز حدود الجغرافيا: التي لم تعد قدراً بالنسبة للشباب، على غرار ما كان في السابق، فقد أصبح المجال السيبراني بكل إمكاناته الافتراضية بديلاً عن الانتماء المكاني بدلالته المادية، ولهذا فإن البُعد المجالي لحياتهم اليومية تحوّل بالتدريج من الدلالة الجغرافية إلى الدلالة الرقمية، ولعل هذا ما يجسّده العنوان الإلكتروني، والحساب على الشبكات التواصلية، والعُملة الرقمية؛ إذ إن هذه المعطيات الجديدة تُخلّص الإنسان بشكل كامل من أي مرجعية جغرافية، أو ارتباط بمكان الإقامة، مما يعني أن تفاعل هذه الشريحة الاجتماعية مع مجريات الأحداث لا يتعلق بما يحدث الآن، بل هو رهينٌ بالترابطات الشبكية التي تحظى لديها بمطلق الاهتمام، لدرجة قد تنسيها تماماً موقعها داخل الجغرافية التقليدية، ومن هنا – ربما – تبرز أهمية مفردات من قبيل «Location» و«Web» بدلالاتها الرقمية الجديدة التي تؤكد على أن الموقع الرقمي الافتراضي أصبح يُغني في كثير من الأحيان عن مفهوم الموقع المكاني.

وعلى هذا الأساس، إن انتظارنا للشباب داخل حيز مكاني، عبر مؤسسات تقليدية معنية بالأصل باحتوائهم، قد يجعلنا نُصْدَمُ بغيابهم عنّا، حتى وإن فرضنا عليهم حضوراً مادياً، فلن يكون في الغالب إلا شكلياً ومنغلقاً وفقيراً على المستوى التواصلي، فهؤلاء الشباب ذكوراً وإناثاً أصبحوا ينهلون معارفهم وتصوراتهم من المواقع التي يرونها تُشبع فضولهم، وتناسب مزاجهم وميولاتهم، والتي تكون عبارة عن «Network» تحظى برواج كبير بين روادها، مما يوجد بين متابعيها نوعاً من صلة القرابة الرقمية التي تتجسد عبر عملية المشاركة، والتفاعل من خلال التعليقات، وترك علامات الإعجاب. وهكذا، من الضروري إيجاد موضع قدم داخل العالم الشبكي، بعيداً عن التصورات المكانية الضيقة، خشية انفلات فرصة إيصال الرسائل إلى هذه الفئة التي تشكّل في منطقتنا العربية والإسلامية غالبية المجتمع، وذلك للأسباب التالية:

– الانتقال من الهوية الثقافية إلى الهوية الشبكية: والتي هي في الواقع مواءمة واستجابة نفسية وذهنية مع طبيعة الانفتاح الرقمي الذي أصبح هو المجال الحيوي الذي تتشكّل داخله شخصية الشاب الرقمي؛ فبينما كانت ملامح وطبائع الناس في الماضي ترتبط بالتفاعل المباشر مع المكونات الأنثروبولوجية والاجتماعية التي تؤثر على طبيعة ردود فعلهم، وشكل سلوكهم النفسي والذوقي، نجد أن الشخصية الرقمية أضحت أكثر تعقيداً، وذات تجليات مختلفة ومتمايزة، تبعاً للآليات الرقمية التي توفرها الشبكة، وهذا ما سعت سوسيولوجيا الظاهرة الرقمية إلى تشريحه وتفكيكه بشكل دقيق، وعلى الخصوص من خلال وضع خصائص تفكك أبعاد الهوية الجديدة، ومدى تبعيتها للثورة التواصلية الرقمية، حيث تترتب تجلياتها ومرئياتها وفق الأبعاد التالية: الواقع في مقابل التطلعات، والوجود في مقابل الأفعال، وهذه الأبعاد تسمح بتشكّل طرق متباينة ومتقاطعة لهوية رقمية معقدة وغير ثابتة، يمكن تلخيصها بالتالي:

* هوية مدنية، تكشف عن اسمها الفعلي، وصورها، ووضعها الاجتماعي ومعطيات عن مستواها التعليمي، وذلك في إطار تفاعل محدود، وخاضع للاصطفاء داخل منصات من قبيل Twitter، Facebook، والتي تسمح لمستعمليها باقتسام معطيات فعلية بهوية الفرد الشخصية، ومؤشرات عن مزاجه.

* هوية تأثيرية، تتشكّل من وضعيات رقمية يُظهر فيها المستعمل التزاماته الاجتماعية والمهنية بغرض تحوّل تفاعله إلى أفعال مؤثرة، وهذا ما يتجسد من خلال استعمال منصات من قبيل LinkedIn، Wikipedia.

* هوية سردية، ترتسم فيها الهوية على شكل مقتطعات متتابعة من الحياة الشخصية والصور والمناسبات الخاصة مثل Snapchat.

* هوية افتراضية، تتشكّل حينما يتم تشبيك مستعمل بعض المنصات مع أطراف لا تربطه بها أي علاقة شخصية، فيتحولون بفعل المنتجات إلى نوع من الجمهور الواسع الذي يتابع الحياة الرقمية لصانع المحتوى، وأحياناً دون أن يكون هذا الأخير مضطراً لكي يكشف عن أي من معطياته الخاصة أو التفاعل الشخصي مع كل متابعيه، وهذا ما يوجد مثلاً على منصة YouTube.

الحال أن هكذا تجليات لا تمثّل هوية واحدة متكاملة، بل هي بالأحرى حزمة من التفاعلات التي تتأثر بمستوى الدينامية الافتراضية للمحتويات داخل المنصات، والتي هي بدورها نتاج للخوارزميات التي ينتظم عنصرها الرقمي بكيفية شاملة، ومن ثمة فهي تختلق هذه الأبعاد الهوياتية حسب نظام افتراضي يجعل الهوية الملموسة الاعتيادية تابعة للهويات الرقمية المتعددة للفرد وليس العكس، لأن مزاج وميولات ومواقف الفرد الرقمي لا تعود بالضرورة إلى قراره الحر، أو إلى سياقه الواقعي، بل إنها تتخلق عبر مرحلة متتابعة ومعقدة من عمليات التسويق العميق للمعطيات، الذي من الصعب معرفة إلى أين تنتهي امتداداته الشبكية. لكن في كل الأحوال، إن هذه الهوية تظل مستمرة في الزمن الافتراضي، دون أن يكون لها أي حضور مكاني واضح، إذ يكفي أن يتفاعل المرء مع مادة رقمية معينة، حتى يستمر أثر هذا الفعل إلى ما لا نهاية بمعزل عن المكان المادي، وهذا يدفع إلى أن تتشكل مسؤولية أخلاقية تجاه هذه المواد ليس بمقدور الفرد أن يتحكم في مجرياتها، أو فيما يمكن أن تحدثه من ردود أفعال، وهذا ما انتهى إلى ظهور نوع من (السمعة الرقمية) التي تتشكّل من آثار حضور وتفاعل الفرد داخل الشبكة، وهو ما أصبح أمراً مصيرياً في تحديد القيمة الاجتماعية والمهنية للفرد، إذ إن العديد من المؤسسات أصبحت تحدد موقفها من الفرد انطلاقاً من قياس هذه السمعة الرقمية. 

إن هذه التحولات الجذرية التي طالت الحضور الإنساني في العالم، وطبيعة العلاقة التي يقيمها مع ذاته ومع الآخرين، والقيم والمبادئ التي تستند عليها الممارسات الرقمية الجديدة للإنسان الرقمي، تفيد أن قواعد التأثير قد تغيرت تماماً، وأنه من الخطر أن تستمر المؤسسات التقليدية المعنية بالشباب في العالم العربي والإسلامي تحديداً، والتي تهدف إلى الانفتاح، وتأطير العلاقات بمشاريع نوعية، وتصحيح المغالطات الآيديولوجية، بالاستمرار بنفس النهج، كما لو أن ما يحدث يتعلق بالمستوى الأداتي للتقنية الرقمية فقط، بعيداً عن الهوية الأخلاقية والمعرفية والعقائدية للفرد، لأن موقفاً كهذا سيجعلنا منفصلين عن السياق الفعلي للحياة اليومية للناس. 

ولكون كل مؤسسة اجتماعية أو دينية هي في الواقع تتشكّل من مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحكم العلاقات التفاعلية بين الناس، فقد آن لنا أن نجتهد كي نُقيم إصلاحاً عاماً للمؤسسات التقليدية في العالم الإسلامي، كي تتمكن من فهم طبيعة القواعد الرقمية الجديدة، وتفعيلها في نسقها الوظيفي، لأن ذلك وحده كفيل بأن يربط هذه المؤسسات بالمجال الحيوي الجديد، حيث تُصنع هوية شبابية جديدة، عبر عمليات تواصلية تقوم على أساس إلغاء المعاني المعهودة للزمان والمكان، وتفتح أمام فئة الشباب آفاقاً اجتماعية، واقتصادية، وآيديولوجية تمتد عبر العالم بأكمله. إن مسألة العُزلة والانكفاء على الذات، والعمل التقليدي المصحوب بالتمركز الضيق، سيجعل هؤلاء الشباب في إشكالية، وهنا نؤكد على الحاجة إلى إنتاج مشروع شمولي، يقبل بمقتضيات التغيير والتطوير لعالم أصبح لا يؤمن بالزمان والمكان التقليديين.

*نشر في صحيفة “الشرق الأوسط” الأربعاء 7-7-2021