يسعى مشروع التطرّف بجميع تياراته إلى التسرب بكل السُبل نحو وجدان الشعوب وأمزجتها وحساسياتها، في إطار استهدافٍ أوليٍّ غير مباشر للدولة التي تمثّل عدوه الأول والأخير، وذلك في خطوة سابقة في العادة عن العمل الإرهابي المباشر التقليدي؛ لأن كل فكرٍ متطرّف حينما ينجح في الوصول إلى العقول يكون قد خطا خطوته الأولى في مسار تحقيق أهدافه البعيدة التي تتجلى في إحداث انفلات أمني، وفي التحلّل من العقود الاجتماعية والضوابط القانونية، وهو ما يعني نسف صمام أمان المجتمع من الأساس، وتوفير البيئة المناسبة لتنامي العنف. وتُعدّ مهمة الاستحواذ على الانفعالات السائدة بين الناس والتحكم فيها معركته المصيرية، لأنها المدخل الأكثر سلاسة لكسر وفاق المجتمع وفصله عن انتمائه الروحي إلى مؤسساته، والتطرّف حين يحقق أدنى انتصار على هذا المستوى الفكري والعاطفي، فإنه يكسب على الأرض أتباعاً جُدداً، ويستميل آخرين عاطفياً في انتظار استدماجهم داخل جسمه التنظيمي الخطر، فيتضخم بفعل ذلك في صمتٍ وخفاء، إذا ما لم نستبقه بالإجراءات اللازمة، إلى أن يصبح ورماً قاتلاً قد انغرس وتنامى في الجسم الاجتماعي على حين غفلة من الجميع.
إن المزاج العام للناس الذي تتشابك فيه القناعات مع الانفعالات، مع ما يأخذ في الظاهر صورة موقف آيديولوجي، حتى إن كان في حقيقته مجرد ردة فعل يتحكم فيها كثير من العوامل النفسية الصريحة والخفيّة التي لا علاقة لها بالفكر من الأساس، هو على وجه الدقة ما يصطلح عليه بعبارة «الرأي العام»، الذي يتشكّل في أحد جوانبه من الميولات المتباينة للناس تبعاً لأوضاعهم الفئوية والشخصية، وهذا التباين سيظل موجوداً على الدوام، نظراً لدينامية التطور الطبيعية داخل المجتمعات المسؤولة عن اختلاف الرؤى، لكن الرأي العام في جانب آخر منه يتصل بذلك التوافق المركزي الذي يسود داخل مجتمع معين حول ثوابته وركائز انتماءاته الأساسية على المستوى الوطني. وهنا، تصبح قوة ثبات هذا المكوّن الحيوي أمراً مصيرياً بالنسبة إلى حياة الشعوب، ولهذا فإن معركة مشروع التطرّف ورهانه الاستراتيجي يتمثّلان في اختراق هذا البُعد الثاني من الرأي العام، من خلال اخْتلاق رأي عام دعائي يتناسب مع أهداف المشروع التدميري. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه من الخطأ الاعتقاد بأن معيار بناء هذا الرأي رهين بمبدأ الحقيقة بدلالتها المعرفية والأخلاقية. وهو اعتقاد يستند في العادة إلى التعويل المطلق على الموثوقية في إطار الدفاع عن القضايا العادلة، وعلى توجيه مآخذ باسم الفضيلة والصدق حيال كل من يخوض حملة مُغْرِضَة للتشويش على ما يراه القائلون بهذا الموقف حقاً أو للترويج لما يعدّونه باطلاً، الحال أن التعويل على هذه البراءة الفكرية والمنهجية في فهم مواجهتنا للتطرّف تعد هدية ثمينة تُقدّم بالمجان إلى القائمين على مشروع التطرّف الذين لا يلتفتون لمثل هذه الاعتبارات، بل أكثر من ذلك، إنهم يبدون أكثر استيعاباً لمتغيرات عصر ما بعد الحقيقة، بقدر ما يلاحِظ المتابع المختص لمشروع التطرّف مدى إجرائية نشاط القائمين عليه ومكرهم في استغلال حالة الاطمئنان الفكري التي يعيشها البعض حيال ما يقع في العوالم الرقمية.
ومن هنا، علينا أن ندرك أن الرأي العام أصبح نتاج صناعة مكتملة الأركان، على الخصوص في ما نشهده من الثورات الرقميّة النوعية المتتالية والمتسارعة معاً، التي أتاحت للعموم أدوات لم تكن متوفرة في السابق لأكثر الدول تقدماً، ولا للمؤسسات الأكثر خبرة وتمكناً في السياسات الإعلامية والدعائية، وهكذا أصبح مشروع التطرّف سبَّاقاً للمنافسة على استعمال هذه الأدوات، التي سهَّلت عليه بشكل مُقلق منافسة المؤسسات الرسمية المثقلة بمسؤوليات وواجبات الضوابط القانونية والأخلاقية، كما أسهمت في جعله يأخذ حجماً رقَمياً متضخماً مزاحماً بذلك خطاب المؤسسات الرسمية، ما منحه حضوراً ملفتاً على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي أتاح للمحتويات المتطرفة فرصة الوصول إلى شرائح مجتمعية أوسع، بعيداً عن الدائرة السريّة الضيقة للتنظيمات المتطرفة في شكلها التاريخي التقليدي، وهي المحتويات التي مسّت – للأسف – على وجه الخصوص تلك الفئات العمرية الشبابية التي تُمثّل الجيل الرقمي الجديد المعتمد بشكل كامل على هذه الشبكات في بناء تصوره للعالم وما يحيط به، الذي يستهدفه مشروع التطرّف بشكل جدّي من خلال صناعة رأي عام دعائي مخادع، بكل ما يتضمنه ذلك من مخاطر، ومن قدرة على الانتشار، ومن براعة في التزييف والترويج.
وتكمن المادة الأولية التي يُنوِّع التطرّف من خلالها منتجاته الخطرة، في ما يمكن دعوته بالانفعالات الأساسية داخل الطبيعة الإنسانية، من قبيل القلق، والخوف، والشعور بالذنب، والتعاطف، وعقد الآمال، والرهان على المُثل العليا، إلى غير ذلك من المشاعر الاعتيادية التي تُشكّل الوجدان العام للشعوب، إلا أن آليات التضليل التي يعمل عليها مشروع التطرّف ويشتغل على تطويرها باستمرار، تتيح له خلق توليفات مركبة خطرة من هذه المشاعر، من قبيل المخاوف الخيالية، ومشاعر الذنب غير المبرّرة، والآمال الكاذبة، وأسطرة الأشخاص، ليتحوّل لاحقاً كل هذا المركّب المُعقَّد من الانفعالات إلى مزاج عام يتميّز بالعدوانية، وهو ما يتحقّق حينما يجري تجميع كل هذه التوليفات الانفعالية حسب مبادئ المثلث البنيوي للتطرف: «المعتدي، والضحية، والمُنقذ»، ما يعبّر في الواقع عن المزاج الإرهابي عموماً بغضّ النظر عن أصوله الثقافية، وذلك نظراً لقابليته لأن يُدعم بسرديات المظلومية، إلا أنها تخدم عملياً نفس الأهداف، وذلك عبر تحايله على معطيات الذاكرة الجمعية، لكي يلتقط منها بدهاء عناصر التأليب، إلى غاية نجاحه في تسميم الرأي العام المرتبط بالثوابت، وعندئذ تنفتح بوابة المخاطر، ويرتسم مسار الانزلاق نحو صراعات التدمير الذاتي، التي يصعب حينما تحصل في واقع المجتمعات إيقاف مفعولاتها الكارثية، ولنا في وضع كل البلدان التي فقدت هذا الوفاق الاجتماعي حول الثوابت، خير دليل على مدى خطر التهاون حيال العوامل المتسبّبة في حدوث نتيجة من هذا القبيل.
أما في ما يتعلق بالاستراتيجية المتصوّرة والمُعدّة من مشروع التطرّف لبلوغ أهدافه السابقة، فهي تنطلق بالأساس في ما يمكن دعوته بمنهجية المدارات المتعاقبة، التي تُضيّق مسار الاستقطاب تنازلياً ثم توسّع مداه تصاعدياً، وهذا على خلاف الاستراتيجية التقليدية التي كانت تراهن على خلق التبعيّة المباشرة بين القيادة والأتباع بشكل شبه خطي عبر الانتماء التنظيمي الضيّق، الذي كان يأخذ شكلاً عقائدياً وآيديولوجياً صريحاً وواضحاً، أما في الحالة الرقميّة التي نعيشها اليوم فتمثّل هذه النواة التقليدية الصلبة من الأتباع التنظيميين مجرّد المدار الضيق الأول الذي وَحْده يأخذ صورة عقائدية آيديولوجية، وهو في الغالب مدار يتخفّى وراء منصات التواصل الاجتماعي الأكثر انغلاقاً، التي توفّر الإطار الرقمي للتواصل التنظيمي المباشر والانتقائي المُحاط بكثير من الاحترازات التقنيّة والسريّة. أما المدار الثاني فيتشكّل من خلال الفعاليات التواصلية لجزء من هذه البؤرة الضيقة من المتطرفين، التي تقوم بصناعة المحتويات لأجل نشر موادها الخطرة عبر الشبكات الأكثر شعبية وانفتاحاً. إن هذه الفئة تُمثّل الناقل أو الوسيط ما بين الجماعة العقائدية المتطرّفة الضيقة، وما بين جمهور المتعاطفين الافتراضيين الذين يتلقون هذه المحتويات كمصادر موثوقة للمعرفة، وبعدها يجري الانتقال إلى المدار الثالث الذي يتشكّل بطريقة غير قصدية، نتيجة لطبيعة المصفوفات المتحكمّة في برمجيات الشبكة، فهو في الواقع مدار يتولد عن تلك الخوارزميات التي تُفرز بشكل آلي مجاميعَ رقمية -وليست جماعات – تأتي نتيجة للترابطات الشبكية بغضّ النظر عن قناعات أصحابها أو ميولاتهم، فيكفي أن ينقر أي مشترك ضمن شبكات التواصل على محتوى معيّن لمرات متكرّرة، حتى يُقترح نفس هذا المحتوى على الحسابات المرتبطة به داخل مجموعات رقميّة قد لا تكون لها علاقة مباشرة بموضوع هذه المادة من الأساس، وهنا يمتد هذا التأثير المحتمل وغير المُخطط له للمحتوى المتطرّف إلى أقصى مدى. وفي رحلته التصاعدية هذه، يحدث أن يُصادف هشاشة تسمح له بتصيّد متعاطفين جُدُد ينتقلون بدورهم نزولاً، حينما يصطادهم المؤثر الرقمي المتطرّف، عبر المدارات المتعاقبة إلى غاية وقوعهم في بؤرة مدار الأتباع التنظيميين الضيّقة. وبين مراحل هذه المدارات التي تتداخل فيها العوامل الآيديولوجية والدعائية والبرمجية، يَجري الإعداد بجدية من مشروع التطرّف، لصناعة رأي عام طُفيلي يحمل داخله كل عناصر الخطر والتهديد لاستقرار المجتمعات، ولأمن العالم.
إذن، فمن الضروري المُلِحِّ الاضطلاع بمسؤولية خوض هذه المعركة لأجل حماية الرأي العام في بُعده الثاني، وذلك على مستوى المدارات الثلاثة مجتمعة، وسيكون من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن السجال التقليدي على مستوى بؤرة التطرّف الصريح والعقائدي كافٍ لتحصين المجتمع من مخاطر هذا المشروع التدميري الذي يأخذ اليوم أشكالاً جديدة كلياً. ولإعفائنا من خوض المعركة على باقي الجبهات الأخرى، فمواجهة مشروع التطرّف – في رأينا – يجب أن تكون كاملة أو لا تكون. لهذا من المناسب أن نستكمل أولاً تفنيدنا الفكري للمحتوى المتطرّف بمنهجية حديثة تناسب التحديات الآيديولوجية المعاصرة، بحيث نكشف تهافتها على نحو علمي صارم، ونمنعه من أن يستحوذ على المصادر المعرفية للمجتمع، ونكشف آلية تلاعبه المخادعة والماكرة. وستكون هذه هي جبهة المدار الأول، ثم من الواجب ثانياً الانتباه إلى تلك المواد الرقمية التي تسعى إلى تشكيل الحساسيات المجتمعية، وذلك من خلال رصدها واستباقها ومحاصرتها بضوابط قانونية صارمة، تنتهي بمنع وصولها إلى المُتلقي، على اعتبار أنها بضاعة مزوّرة، وأنها محتوى بالغ السُمِّية تقتضي الدواعي الوقائية منعه من الانتشار من الأساس، خصوصاً بين الفئات العمرية الأكثر هشاشة. إنها جبهتنا على المدار الثاني للتطرف. وأخيراً إن وعينا الكامل بجسامة التحولات الرقميّة، التي يوجد فيها العالم الراهن بعد ثورة الذكاء الاصطناعي، يقتضي أن ننخرط في معركة الخوارزميّات التي تشكّل الروح العميقة للحياة الرقميّة. وإننا إذا لم نجد عاجلاً موقع قدم صلباً في هذا المجال، فستكون خيوط رأينا العام ومزاجنا الرقمي تحت رحمة قوة صامتة وعمياء لا أحد يمكن تَوقع نتائجها المُعقدة. وهذه جبهة معركتنا على المدار الثالث.
وعلى هذا الأساس، إن حرصنا على فهم ما يدور في عوالم المنصات الرقميّة وعلاقتها بمشروع التطرّف، هو في الواقع استباق لمزالق الرأي العام المتاهية داخل المدارات الثلاث للتطرف. وهذا الفهم الشمولي للمخاطر سيكون المفتاح الفعلي والضروري لتحصيننا ضد مشروع التطرّف الذي يعمل بمكر وحقد شديدين على قيادة معركته ضد استقرار الأوطان، ومستقبل الإنسان.
نشر في صحيفة “الشرق الأوسط” الجمعة 7-6-2024