إن القدرة على الاستعمال السليم للعقل هي ما يُمثل الكفاءة الإنسانية المميزة له عن باقي الكائنات، وبالتالي هي ما يُشكل جوهر قوته في مواجهة مخاطر الحياة، ولهذا يعتبر العقل من أكبر النعم لدى الإنسان، ولأن شكر النعمة مفاده الحفظ والصون وإحسان الاستعمال، فإن كل سلوك يُعطل هذه الكفاءة الإنسانية أو يسيء إليها، أو يمنع تطورها ونموها ورقيها، أو ينشر خطابًا معاديًا لها، يعتبر من أعداء الحياة، ومن هذا الباب يعتبر خطاب التطرف بكل ما يشيعه من أحكام فاسدة، وقضايا مدلسة، وتفسيرات خاطئة للأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية، من ألد أعداء العقل، ومن أكثر العوائق المثبطة لمسار نمائه، ومن هنا فكل تطرف هو جحود بنعمة الله الأساسية، وخطر على الحياة اللائقة بالإنسانية، وفي النقاط التالية نشير إلى بعض من جوانب عداء التطرف للعقل:
▪ أولًا: يُعادي التطرف الاستعمال السليم للعقل بمبالغته في تفخيم الانفعالات والدفع بها إلى مستويات مرضية، تسمم في الغالب الحياة الاجتماعية والفكرية للناس، وتمنع حدوث ذلك القدر المعقول من العقلانية والموضوعية المطلوبة لرؤية الأشياء كما هي لا كما تصورها الانفعالات، وإن من أخطر أسلحة التنظيمات المتطرفة رهانها على دفع أتباعها وسوقهم بفعل دافع الاحتدام النفسي، إلى بناء مواقف وتصورات تحت ضغط التصعيد النفسي، وهو ما تطالعنا به منابرهم وخطبهم وتسجيلاتهم الصوتية التي تتفنن في التلاعب بنبرات الصوت الغضوب أحيانًا، والمتباكي أحيانًا أخرى، وهذا ما من شأنه أن ينجح في التأثير؛ إذا ما وجد استعدادًا مسبقًا لدى متلقيه، وإذا ماتم وقف عمل العقول وإطلاق عنان الانفعالات، وهو ما يساهم في بناء كل العناصر اللازمة لتشكل الشخصية المتطرفة لدى الأتباع، الذين يستغنون مع مرور الوقت عن فعل التفكير من الأساس، مستسلمين لأطياف الخيال الانفعالية، نتيجة لتأثرهم برفع الأصوات والتلاعب بالألفاظ، والثقة العمياء في الجمل المسكوكة والشعارات الرنانة، وهو كفيل بأن يلعب دور الاستدلالات الزائفة.
▪ ثانيًا: يفسد التطرف الحياة العقلية للشعوب ببنائه خطابًا قائمًا بالأساس على إستراتيجية نشر الإشاعات، التي تسبق في العادة سحائبها المظلمة كل عمل إرهابي مجرم، ولقد اعتاد المتابع لظاهرة التطرف أن ينظر إلى ارتفاع مؤشر الأخبار الزائفة على شبكات التواصل الاجتماعي كإنذار مسبق على حدوث طارئ إجرامي من طرف التنظيمات المتطرفة، لأن الإشاعة المغرضة هي ماقد يساهم في نشره الجمهور غير الواعي بخطورة ذلك، فيبدو الفعل الإرهابي كما لو أن لديه ما يبرره، ولهذا كثيرًا ما يستغل المتطرفون والإرهابيون القضايا الوطنية أو الاجتماعية في ذلك، ثم إن هذه الإشاعة من جهة أخرى تجعل التابع المغرر به ينغمس أكثر في العنصر الانفعالي، مما يجعله مُهيِّئ لكي يرتكب أعتى الحماقات وهو مقتنع تمامًا بكونه يُحسن صنعًا، رغم أن المنطلقات التي يستند إليها هي محض اختلاق، أو أنها قد فُسرت له بطريقة غير صحيحة، لهذا إن مكافحة الأخبار الزائفة ومحاصرتها، ومنع انتشارها هو أحد الوسائل الناجعة في الحد من تأثير الفكر المتطرف على العقول.
▪ ثالثًا: يُعتبر التطرف عامل هدم وتقويض لصحة الحياة العقلية للشعوب، لأنه يحُولُ دون التفاعل الحضاري السليم، وذلك لأن كل متطرف ينظر إلى الآخر باعتباره عدو مبين، وبالتالي فهو يعتقد أن أي شيء يَرِدُهُ منه يمثل خطرًا على هويته، التي تتحول بفعل هذا المنطق الأحادي إلى إطار مغلق بشكل متصلب على ذاته، والحال أن العقل لا يتطور إلا بالتفاعل الإيجابي مع الغير وبالحوار البناء معه، وأي شعب أو مجتمع أو فرد يُعفي نفسه من محاولة الحوار مع الآخر وفهم ما لا يتفق معه، يُعرض نفسه للخمول الفكري، ومن ثمة لضمور ثقافة العقل داخله، وهذا ما يُفسر الطابع الخاص بالخطاب المتطرف، الذي يؤسس مواقفه وانتقاداته وشكوكه ومراجعاته حيال ما لم يقرأ وما لم يفهم وما لم يعلم، وذلك لأنه لا يقيم وزنًا للآخر، وبالتالي فهو لا يجد حرجًا في أن يتحدث عن هذا الأخير حتى دون أن يعلم عنه شيئًا، ولكي يدافع المتطرف عن هذه الضحالة الفكرية التي تسم حديثه عن ذلك الآخر المجهول؛ الذي لا يعلم عنه سوى شعارات مرسلة لا أصل لها، نجده يستخدم آلية التمييع والتسفيه، في كل مرة يكون مطالبًا بأن يكشف عن مدى معرفته بالموضوعات التي يخوض فيها، وهكذا يتحول فكر الآخرين إلى مجموعة من الحكايات السطحية والإشاعات المفبركة؛ دون أن يكلف نفسه عناء القراءة الجدية لما تحمل من مضامين، وهذا ما ينتهي في آخر المطاف بتكريس ثقافة سطحية عدائية تعمل على إشعال الضغائن، وإثارة السجالات الخصامية والشحناء الإيديولوجية، وتهدد بناء كل حوار حضاري إيجابي.
- ختامًا: يُمكن القول أن تشجيع الاستعمال السليم للعقل، من خلال بناء ونشر الثقافة العقلانية الواعية، وتفعيل التفكير النقدي والتحليل الموضوعيّ للحقائق، وتعميم الحوار السلمي والحضاري بين الأمم والشعوب المختلفة، وتغليب الاهتمام بالأفكار عوض الخوض في خصوصيات الأشخاص، وجعل عمليات المراجعات الفكرية جزءًا من السياق الثقافي للمجتمعات، كل ذلك سيمثل التحصين الفعلي ضد التطرف من حيث هو خطر على الحياة العقلية للشعوب، قبل أن يكون خطرًا على حياتها الأخلاقية والقيمية.