إن التطرف هو قبل كل شيء طريق التناقضات والمفارقات القاتلة، فبالإضافة إلى ظواهر الجنوح النفسي والفكري والأخلاقي التي يغرق فيها الخطاب المتطرف عبر مختلف تجلياته، بداية من تفاعلات المتطرف المتشنجة على شبكات التواصل الاجتماعي، وانتهاءً بتلون وتقلب منظري الإيديولوجيات المتطرفة الغارقة في منطق التلفيق والتدليس والخداع، إذ لا يتوقف المتطرف عن التعبير نحو ذلك التمزق المؤلم الذي يعيشه فيما بين سلوكياته المتطرفة التي يتصادم فيها مع مجتمعه الذي ينتمي إليه، وبين خلاصاته الفاسدة والمرفوضة لا فقط من طرف كافة المجتمعات الإنسانية، بل من المتطرفين أنفسهم -في حياتهم الخاصة- الذين يعيشون حالة من التناقض الغريب مع ماتتضمنه مبادئهم المعلنة وشعاراتهم الزائفة حينما تُرتب حسب منطقهم المتطرف.
فتراهم لا يتورعون عن استباحة الدماء والأموال والحرمات في خطاباتهم المتشنجة وفي أفعالهم الوحشية، ولكنهم في نفس الوقت يبالغون في الإشادة بسلميتهم الزائفة وتسامحهم الكاذب، وحينما يرون آثار خطابهم التحريضي على شكل أعمال عنيفة، مبررة في الأصل على أساس مبادئهم وشعاراتهم التأليبية، تجدهم يعتبرون ذلك خطأ في الفهم وضلالًا في التأويل والتفسير، وهو ما يؤكد أن المتطرفين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون، وتلك ماهي إلا حياة التناقضات والمفارقات الفكرية للتطرف.
وتتجلى الأزمة التي يعيشها خطاب التطرف على مناحي عديدة، إذ لا تخلو مرجعياتهم الفكرية من الشتات المرجعي الذي يجعلهم في مهب الفرقة والمفارقات، ويؤكد حالة التناقض التي يُعاني منها الفكر المتطرف على كافة أبعاده وعلى مستوى تنظيماته، ويمكن إرجاع هذه الحياة المزدوجة للتطرف إلى المفارقات التالية:
- أولًا: مفارقات الحياة السياسية؛ حيث إن تصورات التطرف مثارها ومبتغاها الاستحواذ على السلطة خارج ضوابط الشرعية، فشعاراتهم التي سادت في هذا النوع من الخطاب منذ حركة الخوارج، تتضمن في الواقع رغبة قوية في السلطة السياسية حسب تأويلاتهم الفاسدة للمبادئ الشرعية، وهم من أجل وصول هذا المبتغى الذي يتنكرون له في إطار زهدياتهم الزائفة، يستخدمون كل الوسائل المتاحة أمامهم دونما احتراز أو تحفظ، في محاولة انتهازية ماكرة نحو الانقضاض على تلك السلطة لصالح حسابات تنظيماتهم التي ينتمون إليها، وهم إذ يفعلون ذلك لا يرون في مصلحة أوطانهم سوى حلقة مرحلية في إطار خططهم بعيدة المدى دنيئة الأهداف والنوايا، ومن هنا يبيع المتطرف استقرار وطنه وأمنه ومصالحه لأجل مصلحة جماعته وتنظيمه، ومن المؤكد أن التناقض بين الجماعة والوطن لا يظهران في أول الأمر، لأن المتطرف يُغلف دعواته الخطابية بشعارات وطنية رنانة، تنتهي بإنتهاء تناقض مقدماته.
- ثانيًا: مفارقة الجانب الشرعي والمرجعية التاريخية؛ حيث يُفاخر المتطرف بأنه الأكثر وفاءً للأصول الشرعية والتاريخية في مقاربة القضايا العامة، غير أنه وهو يمارس هذه الغواية الخطابية، لا يتوقف عن الانخراط في مشاريع تخريبية مزعومة، وأعمال متطرفة ممنهجة تستبيح الدماء باسم شعارات زائفة، متجاهلًا أن دعوته تلك تُمثل كبيرة عظيمة، ولهذا تجده هو نفسه حينما يشاهد بأم عينيه الجرائم الإرهابية التي تعكس انحرافه الفكري يتبرأ منها ويتهرب من تحمل مسؤوليتها.
- ثالثًا: المفارقة الأخلاقية والفضائلية؛ وتتجلى في لعب المتطرفين لورقة الفضيلة، التي يُحاولون من خلالها أن يُضفوا على أنفسهم هالة من القداسة التي تتناقض مع التجريم والتشنيع التي تغرق فيها ذمم مخالفيهم، فيقدم المتطرف نفسه باعتباره زاهدًا في الدنيا وراغبًا في الفوز بالآخرة قبل كل شيء، لكن متابعة مسار دعاة التطرف تجعلنا نشعر بمدى التناقض الذي يعيشه المتطرفون في حياتهم الواقعية، التي تشهد على جشعهم الكبير حيال لذائذ الدنيا وخيراتها، فهم أحرص الناس على بناء إستراتيجيتهم الاستقطابية انطلاقًا من وعود مادية صرفة، حيث لا يتورعون في استعمال ورقة الغنائم حين حديثهم عن المعركة التي يخوضونها، كما أن أولئك الذين ظهروا كما لو أنهم تخلوا عن بعض امتيازاتهم المالية في سبيل الدعوة الإرهابية، هم في حقيقة الأمر تسيطر عليهم شهوة النفوذ والسلطة والسطوة، التي جعلتهم يقومون بالمتاجرة في مشاريع إرهابية كان ثمنها أرواح أطفال ونساء وأبرياء ذهبوا ضحية أفكار فاسدة، وضحية تضخم ذوات أولئك المتطرفين الذين تخيلوا أنفسهم أئمة العالم بينما هم يخططون لجرائم عبثية لا يُمكن أن تستند لأي مبرر شرعي أو حضاري.
- ختامًا: يُمكن القول إن حياة المفارقات التي يعيشها المتطرف، تجعله كائنًا خطرًا للغاية، لأنه يستطيع من خلال حياته المزدوجة أن يلعب على حبال متعددة، وأن يستعمل مقدمات صحيحة في ظاهرها خبيثة في باطنها؛ لكي يبرر كوارث إنسانية في الغالب ما نرى أن زعماء التطرف أول المتبرئين منها، فهم في حقيقتهم كائنات متلونة بحسب مصالحها، تغير أقوالها تبعًا لميزان القوى التي توجد داخله، وهذا ما يجعل مفارقات التطرف إستراتيجية إجرامية قبل أن تكون أزمة منطقية في خطاب التطرف ينبغي الحذر منها.