لا شيء أشد قسوة على أفئدة المتطرفين وعقولهم مثلما هي مظاهر الفرح، فكلما تراءت للجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية بشائر الخير بين الناس ووقفوا على حبورهم وسرورهم المشترك بشيء ما واحتفالهم به، إلا وبدأت تنشط عناصر هكذا جماعات في نشر خطابهم التحريضي في معاندة شديدة للمشاعر الإيجابية وتجريم للحياة بكل تجلياتها، وطبع بمثل هذه الرداءة على المستوى الإنساني لابد وأن يستفزه الفرح على مستويات عدة، وفي ذلك نقاط نوجزها فيما يلي:
- أولًا: يستفز الفرح المتطرفين لأنه يعني انتشاء الناس بنعمة الحياة، وهذا ما لا يوافق عليه كل من وقع ضحية للفكر المتطرف، فبقدر ما يضيق صدره بالحياة ونعمها، بقدر ما تتزايد لديه الدوافع الانتحارية بشكل تدريجي،إلى أن ينتهى إلى حالة فصامية خطرة، تدفع به إلى ارتكاب أفظع الجرائم في حق نفسه أولًا وفي حق المحيطين به ثانيًا، وعلى خلافه يعتبر الإنسانُ السَوِيُّ الحياةَ فرصة ونعمة إلهية غالية، يحرص عليها أشد الحرص، ويعتني بها قدر المستطاع، ويصونها في ذاته وذوات الآخرين كأمانة لا يفرط فيها أبدًا، لذا يبتهج بتجلياتها ويتقاسم هذا الابتهاج مع الآخرين، فينتقل الإحساس بالفرح بشكل سلس بينه وبين من يتواصل معه، وهذا ما يأخذ في العادة مظهر الاحتفال الجماعي، في مقابل الانتحار الجماعي الذي تمارسه وتدفع نحوه الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية.
- ثانيًا: يستفز الفرح المزاج المتطرف لأنه يؤشر على انخراط الناس داخل مجتمعاتهم والتحامهم بها، لذا تُعد الأفراح والأعياد فرصة لإظهار هذا الارتباط الإنساني العميق، بينما تمثل العزلة مفتاح تصيد التطرف لضحاياه، وكذلك الترويج للمشاعر المُحبِطة في كل ما يتعلق بمساراتهم مثل المشاريع التي يبتهج لها الناس ويتحمسون لأجلها وينخرطون في تحقيقها وإنجاحها، فيما يراهن التطرف على تقويض هذه المشاعر من خلال زرع الشقاق والخصام بين الناس وهذا ما تتفرغ له عناصر هكذا جماعات وتنظيمات على شبكات التواصل الاجتماعي، لذا فإن تقوية الروابط الإنسانية في المجتمع هي أداة مهمة لمكافحة أدوات التطرف في الاستقطاب والتجنيد.
- ثالثًا: تستفز المباهج المفرحة الفكر المتطرف لأن نمط التفكيرالفاسد الذي يتحكم في هكذا فكر يجعله يرى دائمًا النصف الفارغ من الكأس، وهذا ما يجعل كل تصوراته مغلوطة وشائهة، فإيديولوجيته المتهافتة تمنع عن ضحاياه الرؤية الصائبة، لذا لا يرون معنى الفرح ولا يُقدرون طبيعة التحديات التي تضعها الحياة في وجه الشعوب، ولا متعة التفكير السليم والتحليل القويم فيها، ولا فرح العمل المنظم لتجاوزها، ولا ذلك الابتهاج الذي يصاحب تحقيق الأهداف وإنجاز المشاريع؛ فجميعها تحجب رؤيتها الأفكار الخاطئة لدى المتطرف الذي يزداد كلما مر عليه الوقت انغماسًا في غربته بعيدًا عن المعترك الفعلي للحياة، ليقضي أغلب حياته على هامش المجتمعات التي تستمر في خوض تحدياتها والابتهاج بمنجزاتها.
- رابعًا: يُعادي المتطرف الفرح لأنه وقع في فخ الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية فكرًا وسلوكًا، وهذه الأخيرة هي في حقيقتها عصابات دموية تعتبر الخوف والترويع سلاحها الأكثر تأثيرًا في تحقيق أجنداتها الدموية، لذا تراها تنسج خططًا إعلامية تُضخم من عملياتها الإجرامية، فتعيد إخراجها وإضافة المؤثرات عليها كي تتحول إلى مادة رقمية تلعب دور القوة الضاغطة على الأمن النفسي للمجتمعات؛ فهي حين تقوم بعملية إرهابية ما تتوق إلى أن يحدث ذلك شللًا في القطاعات الحيوية في المجتمع المُستهدف، وعزوفَ الناس عن الانخراط في الأنشطة الاجتماعية، لكن حينما تختار الشعوب الاستمرار في حياتها اليومية بشكل اعتيادي، والعودة إلى أفراحها وأعيادها وابتهاجها، فإن ذلك يعطل أهداف تلك الجماعات والتنظيمات ويعيدهم إلى حجمهم الحقيقي، لذا فإن مجرد تبادل الابتسامات والمعايدات والانخراط في تظاهرات احتفالية، هو بذاته أحد الأدوات الرئيسة في مكافحة هكذا فكر.
- ختامًا: إن مشاعر المتطرف تتبلد وتُطَبِّع مع كل أشكال العنف السلوكي والفكري والذوقي، لذا فإن المُتع الجمالية التي هي جزء من التكوين الحضاري للشعوب تُعد بمثابة ترياق لمكافحة ومواجهة ذائقته العنيفة، كما أنه وبقدر ما تعبر الشعوب عن فرحتها وتحتفي بمنجزاتها وتفكر بشكل إيجابي في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بقدر ما تؤزم الفكر المتطرف وتُعطل آلياته في الاستقطاب والانتشار، فالمجتمعات المليئة بالحياة المُحبة لها المتفاعلة مع الإنسانية بمختلف تجلياتها، المنصهرة بابتهاج وافتخار فيما بينها، هي المجتمعات الأكثر حصانة ضد هكذا فكر وضد محاولات تقويضه لطموحاتها وتطلعاتها المستقبلية لأجيالها الحالية والمقبلة.