يعمد المتطرف الخلط بين الثابت والمتحول في مسارات المجتمع وبين ما هو ثقافي اجتماعي وما هو عقائدي ديني، لإصابة الفئات المختلفة من مكونات المجتمع المُستهدف بالارتباك، ومن ثم تمرير خطاباته المنغمسة في مشاعر الكراهية والإقصاء، والتي تحصد حال تركها دون كشف مزاعمها وحيلها مستقبل صغار السن تحديدًا، وتدفع بالكثير منهم بعد استقطابهم وتجنيدهم بنصوص مجتزئة ومشوهة لحقيقة أصل الدين، إلى أتون من الصراع الداخلي فيما بين أنفسهم من جهة، وما بينهم وبين باقي المجتمع المحيط بهم من جهة أخرى، ما يخرجهم من السياق الراهن ويضعهم في سياق لا يتناسب مع مصالحهم، فيصبح الواحد منهم الذي هو فرصة لدى مجتمعه في أن يكون عاملًا للتقدم وللمبادرة وللإبداع، كائنًا عدميًا يسعى تحت تأثير هكذا خطابات إلى كسر عجلة التغيير والتقدم، باسم امتناعات وحروب لا توجد إلا في خياله، وفي ذلك نقاط عدة من بينها:
- أولًا، يصل التطرف إلى أوج تأثيره القاتل حينما يقنع صغار السن والشباب باسم خطابه المخادع القائم على الخلط والتتويه والتوهيم، إلى أن يعتدي على حياته نفسها فيبددها في عمليات إرهابية تقضي عليه وعلى غيره من الأرواح البريئة، وهو بفعله هذا يعتقد أنه يخوض معركة مقدسة، بينما هو في حقيقة الأمر ضحية لعدم التمييز بين ما يجوز فيه الاختلاف والخلاف، وما عليه إجماع الشرائع والقوانين من ثوابت، لذا من المهم للغاية الحيلولة دون الوقوع في هذا الخلط القاتل بين الثابت والمتغير، وكشف الحيل الدافعة إلى ذلك.
- ثانيًا: الفرد ذاته هو بطبيعته كائن لا يمكن حصره في أطر مغلقة بشكل دائم، لأن أطوار حياته تقتضي أن يغير في كل مرة من أنماط وجوده، فما يناسب الطفل، لا يناسب المراهق، وما يناسب هذا الأخير لا يوائم الكهل وهكذا دواليك، ما يعني ضرورة تنويع الأشكال الاجتماعية استجابة لمسار النمو الطبيعي للفرد، وهذا ضمنيًا يقتضي القبول بقانون التطور والتقدم، غير ذلك سيجعل الفرد يعيش حالة توتر غير صحي بينه وبين مجتمعه، عوض أن يرى فيه إطارًا مرنًا يسمح له بالنمو والانفتاح، ويستجيب لتطلعاته النفسية والفكرية والاجتماعية، مما يقوي شعوره بالانتماء، ويجعل منه شريكًا في المشروع الاجتماعي العام، وليس رهينة تترصد فرصة الانفلات والهروب.
- ثالثًا، لا يمكن تأسيس نموذج اجتماعي على دعوات الإقصاء والرفض لكل مختلف، بل يجب احترام التنوع وإيجاد توازنًا أوليًا بين المتغيرات الحاصلة بفعل التغيير والتطوير، وبين الثوابت الدينية للمجتمعات التي يحاول الفكر المتطرف التغول عليها وتوظيفها لصالح تنظيماته، كما يجب إيجاد توازنًا ما بين المكونات المجتمعية المختلفة، بالشكل الذي يثري التفاعل الإيجابي بين هذه المكونات، ويزيد من تماسكها ووحدتها، في وجه الأفكار والإيديولوجيات الدافعة نحو الإقصاء والرفض والكراهية.
- رابعًا، إن بناء وعي المجتمع من الأهمية بمكان حيث أنه كفيل بتحقيق الانسجام بين مكوناته المختلفة، بل وإثراء جهود مكافحة محاولات المتطرفين تمرير أفكارهم، ودحض مزاعم خطاباتهم المنغمسة في نصوص دينية مقتطعة من سياقاتها بهدف استقطاب وتجنيد فئات مجتمعية متعددة خصوصًا صغار السن منهم، للدفع بهم نحو تقويض أركان مجتمعهم، وتهديد فرصه في التقدم والنهوض، الأمر الذي يستوجب بالضرورة المشاركة الجمعية في بناء هذا الوعي ونشره بين مختلف مكونات وفئات المجتمع الواحد.
- ختامًا، من المهم أن يواجه المجتمع إستراتيجية المتطرفين في محاولات اختطافهم النص الديني وتشويهه لصالح أهداف هي في حقيقتها أبعد ما تكون عن صحيح الدين، مع أهمية التأكيد أيضًا على أن التطور ما هو إلا جزء من الحياة التي تستوجب في مجملها احترام ضوابط الأصل والأصالة، والوعي بأن تقدم المجتمعات وتطورها لايعني بالضرورة كما تزعم الخطابات المتطرفة انسلاخًا من القيم والعقائد، بل هو في الأصل ترسيخًا لثوابت المجتمعات وتنميتها حفظًا لحق الأجيال الحالية والمقبلة في العيش بسلام واستقرار.
