إن خطاب التطرف من حيث المبدأ هو خطاب انفعالي غارق في آليات الاحتجاج والرفض والاتهام والتكذيب والتخوين التي هي جزء أصيل من مكوناته، غير قادر على أن يقدم أي مضمون في استقلالية عن عداءات وهمية يختلقها لتحقيق غايته الرئيسة في التشكيك وإفقاد الثقة في كل ما سواه، ما يجعل أصحاب هذه الخطابات ينغمسون إجمالًا في أطروحات هي في مجملها مضللة وأبعد ما تكون عن الحقيقة، وهذا المنطق هو ما يفسر أمرين، أولًا الطابع الانفعالي للتطرف، ثانيًا خوفه من كل أشكال الوعي الإيجابي لدى أتباعه، والحيلولة دون حدوثه، وفي ذلك نقاط عدة نوجزها في التالي:
- أولًا، التطرف رهين بمدى قابلية الآخر لتصديق خطابه أكثر من مصداقيته هو ذاته كفكر، وذلك لسبب بسيط يتمثل في قصور خطاباته عن الإلمام بكل تفاصيل ما يزعم مواجهته، بل وعجزه الواضح عن مجاراة الأطروحات ذات القيمة الفكرية الحقيقية، وإحالات أصحابه المضللة والتي هي في مجملها استشهاد بمختصرات إنشائية موجهة لجمهور واسع غير متخصص، وافتقاده إلى عرض القواعد الصلبة للمتون الحقيقية لكل ما يستهدفه من قضايا عقائدية أو مجتمعية معاصرة، معوّضًا ذلك بخطابات تبسيطية وزائفة تستهدف تحقيق تعبئة شعبوية أكثر من كونها تقدم فكرًا جديرًا بالبحث والنقاش؛ من هنا فإن افتقاد المتطرف إلى العمق الفكري والقوة الاستدلالية المدعومة بمرجعيات أكاديمية راقية، تجعله يستعيض عنها بتضخيم الجانب الشخصي الأخلاقي لدعاته، حد إحاطتهم بهالة من القداسة والتهيّب، بالشكل الذي يتحولون فيه إلى قوة رمزية ضاغطة تمنع ضحاياهم من فعل التفكير، وتدفعهم دائمًا نحو تصديق كل ما يقال لهم عبر مسموعات ومنشورات لأشخاص هم في الواقع لا يملكون من أسباب العلم إلا ما يكفي لمخادعة هؤلاء الضحايا.
- ثانيًا، تخاف التنظيمات المتطرفة من نور الوعي والفكر الحقيقي، لذا تحرص على منع أي بصيص ضوء من الوصول إلى ضحاياها، بما يضمن لها بناء صورة ذهنية ترسخ في نفوس هؤلاء الضحايا أن التنظيم وزعاماته هم وحدهم من يمتلكون الحقيقة والصواب، سعيًا نحو جعل هؤلاء الضحايا بمعزل عن قبول تفنيد ما يقدمه مشرط التدقيق العلمي من طرف المتخصصين لأفكار التنظيم أو زعاماته، وهو ما يبرر سعي تلك التنظيمات الدائم إلى تبني ونشر خطابات المظلومية، وأنهم ضحايا مؤامرة تسعى إلى منعهم من إيصال صوتهم للناس، حتى يضمنوا تعاطف الضحايا ورفضهم لما يطالهم من نقض من طرف ذوي الفكر والاختصاص.
- ثالثًا، إن إستراتيجية الجهل المقنع بمسوح العلم التي يعتمدها دعاة التطرف، تبدو مكشوفة للمتابع المتخصص الذي يكلّف نفسه تدقيق تفاصيل ما يتحدث عنه هؤلاء، والتحقق من ادعاءاتهم العلمية الوهمية، بالعودة إلى النصوص التي يحيلون إليها، وحينئذ تبدو له مدى الجرائم الفكرية التي يقترفونها دون أن يطرف لهم جفن، فقط لقناعتهم بأن ضحاياهم لا يبذلون هكذا جهد في تقصي ما يقال لهم.
- رابعًا، إن قراءة مدققة لما يشيعه أصحاب الفكر المتطرف بين ضحاياهم، تجعل كل متابع على بينة من ضلالاتهم، وتكشف مدى قدرتهم على تزوير الشواهد وإخفاء ما يبطل مقولاتهم، وأنهم يبنون حضورهم على إستراتيجيات يتبعونها لإيقاع ضحاياهم في دوائر مزعومة من الثقة في كل ما يقولونه من خلال خطابات بلاغية وترويجية مكثفة.
- ختامًا، إن بناء خطاب قادر على كشف إستراتيجيات التزوير التي يحرص المتطرف على إنزالها بنصوص التراث والأطروحات الفكرية المعاصرة، سيمثل ضربة موجعة لخطاب التطرف، خصوصًا وأنه ليس من الضروري الانخراط مع أصحاب تلك الخطابات في سجالات مباشرة، ستمثل بالنسبة إليهم فرصة سانحة لبناء موقفهم من خلال استعمال خطابات الآخرين، كتَعِلَّةٍ لتمرير مقولاتهم السلبية من تخوين واتهام وشيطنة وتكفير، بل يكفي الدفع بضحاياهم دائمًا نحو حتمية التحقق مما يقال لهم، ودفع الفئات المجتمعية المختلفة نحو التسلح بالوعي وعدم الاستسلام للخطابات التي تدفع الفرد نحو الانفصال عن مجتمعه ومحيطه، مع ضرورة إحداث صلابة مجتمعية ستمثل يقينًا مناعة حقيقية تجاه الأُكذوبات الكبرى للتطرف التي لا يتوقفون عن ترويجها بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.