يعتمد استمرار نشاط التنظيمات المتطرفة بشكل رئيس على إستراتيجيات مختلفة تضمن من خلالها البقاء والقدرة على تصدير أفكارها وخطاباتها المُضللة التي تستهدف بها فئات المجتمع الذي تتحرك نحوه، وإن كانت هذه الإستراتيجيات تختلف في ظاهرها إلا أنها في الحقيقة تتشابه في كونها تكشف بشكل واقعي الوجه الحقيقي لتلك التنظيمات، خصوصًا من جانب تشابه أساليبها في استخدام العنف وارتكاب جرائم إنسانية في سبيل تحقيق أهدافها المادية والفكرية، لذا فإن المتتبع لتاريخ التطرّف سيكتشف نقاط عدة، من بينها:
- أولًا، تشترك التنظيمات المتطرفة في الحرص الدائم على توفير مصادر للأموال، وعند مطالعة أرشيف تلك التنظيمات يُظهر ذلك معلومات تفضح مستوى انتهازيتها وقدرتها على تغيير خطاباتها بما يتوافق وسهولة الاستحواذ على تلك المصادر، وهو في الغالب ما يشكّل الدافع الفعلي للانخراط في صفوفها من طرف أتباعٍ كثر يتصادف في كثير من الأحيان أنهم كانوا في الأساس معتنقين لأفكار متطرفة أو عليهم سوابق أمنية، الأمر الذي يفسّر انسجام المصالح أحيانًا بين تلك التنظيمات من جهة، والتشكيلات الإجرامية من جهة أخرى، والذي نصادفه في مسارات تنظيمات اعتمدت بشكل رئيس على أنشطة إجرامية لأجل توفير مصادر تمويل لها.
- ثانيًا، تُخفي التنظيمات المتطرفة دائمًا خلف شعاراتها، مصالح مادية أو إستراتيجية وفق ما يتوافر لديها من أدوات وأهداف؛ لذا تشتعل لغتهم بالحقد والضغينة والوعيد والتهديد حين فقدانهم لهذه المصالح، وفي الغالب ما تحدث الانشقاقات داخل صفوفهم بسبب خلافات من هذا القبيل.
- ثالثًا، إن المتطرف بشكل كبير هو بائع نشط للزيف والوهم والضلال، ما يعني أنه بحاجة ماسة إلى منصات تضمن له انتشار وترويج بضاعته، لذا فهو دائم البحث عن المنصة التي تتناسب مع تحقيق أهدافه، بل ودائم الحضور في كل تحول تشهده تلك المنصات، خطابية كانت أم تقنية، فهدف المتطرف الرئيس هو تسهيل رواج خطاباته بالشكل الذي يضمن له حضورًا بالغ التأثير، لذلك لا يمكن القول بأن التطرف يغيب بقدر أنه يتحوّل من نشاط إلى نشاط آخر، وهو ما نشهده مؤخرًا فيما دعاه المختصين بـ”التطرف الشبكي”، والذي أصبح نتاجًا مباشرًا للمادة المتطرفة بشكلها الرقمي القادر على إحداث أثرًا استقطابيًا عنيفًا بعيدًا عن المنصات التقليدية، فمصائد النقر التي تخلقها هذه الشبكات حسب آليات الترويج المرتبطة بالخوارزميات، يمكنها أن تنقل في وقت وجيز وفي سرية تامة المتابِع من وضعية المتعاطف، إلى وضعية الإرهابي الذي لا توجد لديه أية سوابق في هذا المجال.
- رابعًا، ولأن وجه التطرف يتغير حسب وتيرة تطور المجال الرقمي، فمن المؤكد أننا سنُقبل على أشكال جديدة من التطرف ونحن على عتبة جيل جديد من الإنترنت، وعلى الخصوص الانتقال من الإبحار عبر المواقع التفاعلية، إلى الانتقال الافتراضي داخلها والتفاعل البصري والسمعي واللمسي، في انتظار التلاحم التام مع المجال الرقمي المرتبط بنظام الواقع الافتراضي VR والواقع المعزز AR ، الذي يبدو أنه سيوجد عالمًا موازيًا ومستقلًا، على الخصوص في إطار التعاملات المالية التي ستجري في استقلالية تامة من خلال أنظمة أداء جديدة تعتمد العملات الرقمية في صيغة جديدة، ما قد يفتح الأبواب على مصراعيها أمام التنظيمات المتطرفة للاستقطاب أو مراكمة المكاسب المالية المحظورة، لذا فإننا في الوقت الراهن نتابع وفي انتظار المستجدات في هذا الصدد، كما علينا أن نعيد التفكير في تصوراتنا حول ظاهرة التطرّف الرقمي التي سيطالعنا بها العالم الافتراضي في غضون السنوات القريبة المقبلة.
- ختامًا، إن مواجهة التطرّف عملية في غاية التعقيد، تتشابك فيها الجوانب المادية والإيديولوجية، وهو ما يتطلب خطابًا توعويًا مؤثرًا تتشارك فيه مكونات المجتمع كافة للتحذير من مخاطره، وحماية مكتسباتها من آثاره وأضراره، والعمل على تأهيل متخصصين في مكافحة الفكر المتطرف، تمكّنهم الأدوات المتاحة من متابعة الإيديولوجيات ورصد مخاطرها المحتملة.