ثمة تعارض كبير بين الفكر الذي يرى في الفنون حافزًا ومطورًا ضامنًا لبقاء التنوع الإنساني، وبين الفكر المتطرف الذي يرى فيها تهديدًا لوجوده، ومقوضًا لمنطقه القائم على حتمية الانغلاق والصدام مع كل مسار فكري وإبداعي من شأنه إثراء الحياة وتفاعلاتها المكانية والزمانية.
إن الفكر المتطرف دائمًا ما يختزل الوجود الإنساني في أُحادية صدامية، رافضًا التسليم بأن الإنسان هو كائن يحتاج بعيدًا عن لوازم الاستمرار في الحياة في صورتها الطبيعية، إلى ما يسمح له بانفتاح يغني فكره بالمعارف والتجارب، متجاوزًا البُعد الاستهلاكي الصرف، الذي يتم من خلاله التعاطي مع ما يحيط به حسب غرائزه الطبيعية، إلى بُعد قِيمي يُضفي عبره على الأشياء التي تحيط به، دلالات أخرى تمثل له ما يشكل إضافاته الحضارية على وجوده العابر للتاريخ، وفي ذلك:
- أولًا: لدى الفكر المتطرف نظرة مبتذلة تتعاطى مع الإنسان كحزمة حواس متبلدة، وهو في هكذا حالة ينتزع بشكل متعمد كل مقومات بناء حضارات إنسانية حقيقية، مُختزلًا الوجود الإنساني في مجرد إطار من السلوكيات والدعوات الخشنة والمتصلبة التي تفتقد القدرة على استيعاب الخصوصيات البشرية وتنوع أنماط الشخصيات ومقتضيات المراحل العمرية والتمايز النوعي، في صورة أقل ما يقال عنها افتقادها للواقعية وللفهم العميق لحقيقة أن الإنسان رغم تميزه بالتفرد، إلا أنه أيضًا يتميز بالتفاعل الفكري والحضاري مع كل المتغيرات من حوله، بالشكل الذي يسهم في إثراء نتاجاته الإبداعية.
- ثانيًا، يحرم الفكر المتطرف المجتمعات من القدرة على تذوق الأعمال الفنية الراقية؛ لذا فمن المهم رفع الوعي بأهمية نشر ثقافة التربية الجمالية خصوصًا بين صغار السن، حيث يثري هذا النوع من الثقافة تكوينهم المعرفي عبر دفعهم الدائم نحو التفاعل مع الأعمال الفنية والإبداعية ذات القيمة الإنسانية، وحمايتهم من أية مبالغات متطرفة تعمد إلى تشويه أنماط التعبير الفني والزعم بأنها خطر على الأخلاق يجب إدانتها وتجريمها، الأمر الذي يتسبب في الأخير بإضعاف مستوى الإنتاج الجمالي في المجتمعات، ويسلب هذه المجتمعات قدراتها على التفاعل والمشاركة في إثراء الروائع الفنية التي تفاخر بها الحضارات، وتضعها ككنوز بالغة القيمة في متاحفها ومعارضها.
- ثالثًا، إن التربية الجمالية ضرورية لأجل دعم رقي الأذواق الفنية داخل المجتمعات، ومن المؤكد أن كل ما يمكن أن يساعد على الرقي هو في الأخير عدوًا للتوجهات المتطرّفة، التي تتعامل مع الهشاشة الحضارية كتربة خصبة لنشر أفكارها، لذا فبقدر ما نوفر للناشئة -خصوصًا- معرفة بتاريخ الفنون، سواء في مجالات مثل الموسيقى أو الرسم أو المسرح أو النحت أو غيرها من الفنون، إلا وسيقوي ذلك من شعورهم بأنهم جزء من حضارة عالمية، لا تمنعهم خصوصيتهم الثقافية من أن يتفاعلوا معها، ويتذوقوا إبداعاتها، لذا فالمتاحف والمعارض ليست مجرد بنايات ذات قيمة ثانوية في بناء المدن، بل هي بالأحرى ذلك المكان الذي يتفاعل فيه وعي الإنسان مع نظيره في أي مكان آخر من العالم.
- رابعًا، إن الإبداع في مجال الفنون الجميلة هو بناء مهم لرسالة حضارية، يمكنها في نهاية المطاف أن تؤدي وظيفة معرفية كبرى، تسمح للمبدع أن يقدم من خلالها تفاعلاته الجمالية التي تصب في الأخير لصالح الحضارية الإنسانية، الأمر الذي يسمح بظهور أعمال فنية كبرى تضيف إلى المعارف الإنسانية أبعاد وقراءات جديدة ومبتكرة.
- ختامًا، إن انتشار ثقافة التفاعل الإيجابي مع الإبداع والفنون، يسهم في إثراء الوعي الإنساني بضرورة احترام الآخر، وإذا كانت لدى الفنون قدرة على دفع المجتمعات إلى استيعاب التنوع، فإن غيابها في المقابل يمثل مدخلًا من مداخل التطرف لتقويض كل فرص المجتمعات في التطور والتنمية.