يلجأ المتطرف دائمًا إلى حيلة إفراغ المفردات من دلالاتها، ومن ثم تشويه أية محاولات لإيجاد تعريف دقيق للمصطلحات والمفاهيم التي تعتمد كركن رئيس على تلك المفردات، والتي من شأنها غالبًا ضبط الوعاء الفكري واللغوي لدى كثير من المتلقين، الأمر الذي يمنح ذلك المتطرف مساحة تُمكنه من التسلل نحو وعي كثير من الفئات المجتمعية خصوصًا صغار السن الذي تغيب عن جُلهم إدراك مثل تلك الحيل، ومن ذلك تشويهه المتعمد لمضامين مفردات مثل الهوية الوطنية وحدود الدولة؛ حيث تراكمت منذ عشرينيات القرن الماضي الكثير من تلك الأدبيات المتطرّفة التي تتحدث عن هذين المصطلحين باعتبارهما مرادفين للعصبية وللفُرقة، وتدخل في مرافعات كما لو أن ما يشيرون إليه يمثل خصوصًا في الجانب العقائدي صحيح الدين بل وكل الدين، وفي ذلك العديد من النقاط نوجزها في النقاط التالية:
- أولًا: إن التشويه المتعمد الذي يروج له دُعاة التطرف خصوصًا تجاه المصطلحات الوطنية، هو في الواقع تعبير عن قصورهم الإدراكي في استيعاب طبيعة العالم المعاصر، ومدى قابلية الخرائط منذ القرون الغابرة، لأن تتبدل وتتغير حسب توازنات القوى الدولية، من هنا فإن الهوية الوطنية من حيث هي انتماء حديث إلى مجال جغرافي جديد في إطار الدول الوطنية، ليست عصبية جديدة كما تزعم عبارات التطرف لها، لأن الأصل في مثل هذه الدول إنما هو تجاوز العصبيات، وبناء مؤسساتٍ تنتظم بشكل متناغم حسب القانون، وتدخل في علاقات مع دول أخرى حسب معايير الشرعية الدولية، وهي الشرعية التي تجد أسمى تعبير عنها في هيئة الأمم المتحدة.
- ثانيًا: إن المتطرف وهو يستمر في تغذية هكذا تشوهات فكرية ولغوية، إنما هو شخص فقد القدرة على إعادة تحديث جهازه المفاهيمي، ويتحدث لغةً هجينة تصف أشياء مستجدة بشكل كامل بلغة مفرغة من معانيها الحقيقية، مستعملًا مفردات تنتمي إلى معجم قاصر وعاجز عن استيعاب حقيقة مضمون المفردات ومن ثم المصطلحات حيال تعريف المعنى الحقيقي للوطن، ما يجعله يُمثل تهديدًا حقيقيًا للمجتمع من حوله.
- ثالثًا: المتطرف في هكذا تصرف لا يُقيم وزنًا للقوانين الداخلية للبلدان، ما يحيله من حيث المبدأ إلى عنصر مارق، من الصعوبة بمكان توقع ما يمكن أن يرتكبه من أعمال خارجة عن القانون، لذا نجده لا يفوت فرصة للإشادة بكل مظاهر الانفلات ومخالفة القوانين، بل يعتبر ذلك وفق قواميسه شكلًا من أشكال البطولات.
- رابعًا: إن عدم اعتراف المتطرف بالحدود الوطنية، يجعل العمل ضد وطنه لا يبدو أمرًا سيئًا حسب منطقه، فهو رافض للخضوع لمقتضيات جنسيات وطنية لا يؤمن بها أصلًا، ومع ذلك فهو يقبل أن يخضع بشكل مطلق لتوجيهات جماعات وتنظيمات متطرفة تتحلّل من كل التزامات تجاه حدود وجنسية الدولة الوطنية، ما يوقعه في نوع من التغييب، الحد الذي يصبح تشكيكه في مصداقية كل مجتمعه، دافعًا دائمًا له لرفض هذا المجتمع بل وارتكاب العنف ضده متى ما توفرت له الظروف للقيام بذلك.
- ختامًا: إن هذه المؤثرات السلبية الناتجة عن عدم قدرة المتطرف على استيعاب مفهوم الجنسية والحدود الوطنية، تجعله في حالة عدم اعتراف بالقانون الداخلي، وعدم التقيد بالمجال الجغرافي للبلدان، وعدم القبول بالشرعية الدولية، وهو في هكذا حالة لايصبح خطرًا على وطنه فقط، بل على العالم بأكمله، لأنه في الأخير لا أحد يمكنه أن يضمن ذمة من لا ولاء له لوطنه، ولا فهمًا حقيقيًا للعالم الذي ينتمي إليه.