ثمة علاقة مهمة بين القيم والسلوكات النابعة عن التصور الفردي أو المجتمعي حيالها من جهة، وبين التحدي الحضاري الذي يواجه المجتمعات في مراحل نهضتها وتطورها من جهة أخرى، وهو ما يبرر الحاجة الضرورية لوجود مرجعية معيارية لديها من الأدوات ما يُمكِنها من تشكيل مفهوم القيم عمومًا لدى الفئات والمكونات المجتمعية كافة، أوالحكم عليها، وتحديد التراتبيات الأخلاقية والاجتماعية التي تؤثر في بناء الوعي الفردي والمجتمعي حيالها، الأمر الذي يساعد في ضبط وتمييز قيمة ما نفعل داخل المجتمع، استنادًا إلى مستوى الوعي بأهمية تمازج تلك القيم ما بين المحلي والعالمي، وفي ذلك نقاط عدة من بينها:
- أولًا، إن القيم هي أشمل من الخصوصية الفردية بمراحل، فهي بالضبط ما يلزم الفرد بالخروج من الأفق الضيق للحساسيات الشخصية، ليمحص أفعاله حسب معايير تتجاوز الخصوصيات والميولات، وحين تتحول لدى الشخص إلى مرجع للتعامل مع مجتمعه، فذلك يشهد بارتفاع أخلاقه ونزاهته وصدقه وموضوعيته، على عكس من يجعل معياره في الحكم على الآخر والتفاعل معه قائمًا على أساس ميولات شخصية، فهذا في الغالب يكون عرضة لأن يسقط في نوع من الأنانية التي ترتفع حد النرجسية والتضخم، وهو ما يمثل إعاقة حقيقية للفرد أمام قدرته على الالتزام الأخلاقي، ومسؤولياته المجتمعية.
- ثانيًا، إن القيم ليست شأنًا فرديًا خالصًا، حيث إن المبالغة في إعطاء الأولوية للفرد في استبعادٍ كامل للجماعة، يعطل تمامًا قدرة الفرد على الاندماج السليم داخل المجتمع بكل هيئاته ومؤسساته، وهو ما يجعله عُرضة لتجاذبات إيديولوجية قد تكون مضادة له ولمجتمعه، وتدفعه ليكون رهينًا مطلقًا لإملاءات تلك الإيديولوجيات وسطوتها.
- ثالثًا، من المهم التمييز بين ثوابت القيم، وبين المتغيرات الاجتماعية التي تختلف في كل مرة تتفاعل فيها مع المستجدات الراهنة، أو في مراحل التحولات الكبرى لدى المجتمعات، لذا فمن دواعي التوازن الاجتماعي العمل على بناء علاقات وثيقة فيما بين القيم والتطور في حياة المجتمعات.
- رابعًا، إن القيم ليست بالضرورة مجرد عرف اجتماعي داخلي خاص، يرتبط بالثقافات المحلية للمجتمعات ويدفع نحو منع تواصلها الحضاري أو الانفتاح على غيرها من الثقافات بزعم الخصوصية، بل قد تكون أعم وأشمل حيث تتضمن إجماعًا إنسانيًا شاملًا من قبيل الاتفاق على أهمية قيم السلام والتعايش والتسامح، فثمن الخصوصية ليس بالضرورة مناصبة الثقافات الأخرى العداء، والسعي إلى مواجهتها وتبخيسها أو شيطنتها؛ فلا شيء يمنع من أن نجد في قيمنا المحلية ما يدعم ويستوعب قيم الآخرين ويتوافق معها، ويمثل هذا الجهد في تأهيل القيم الخاصة ذلك الحس الحضاري الكوني داخل المجتمعات، ما يجعلها تتقدم بشكل نمائي في مراقي الحضارة الكونية.
- ختامًا، يمكن القول أن مسألة القيم تبلور الكثير من الأسئلة التي تخص علاقة الفرد بالجماعة، والثابتَ والمتغيرَ داخلها، وكذلك البعد الجدلي فيما بين المناحي المحلية للمجتمعات وبين آفاقها الكونية، وسيكون من المهم جدًا القبول بدينامية الأسئلة التي تثيرها هذه الثنائيات المتقاطبة، حيث إن أسئلة الفرد حيال المجتمع، ومراجعة هذا الأخير لمنظوماته المعيارية بفعل أسئلة الراهن الملحة، كل ذلك لا يعد أزمة مرضية ينبغي تجنبها، بل هو بالأحرى عنوان على عنفوان الشعوب وصحتها على المستوى الحضاري.