يعاني المتطرف ضعفًا ملموسًا في مناعته الفكرية والمعرفية حدًا يصبح فيه رهينًا لمشاعر اغتراب وانعزال عن محيطه، تدفعه إلى الهروب نحو مسارات يبحث من خلالها عن تجمعات موازية ومتوارية قادرة على إشباع وتعويض ضعفه ونقصه، وهو ما يفسر عجزه وغيابه التام عن التفاعل مع محيطه بالشكل الطبيعي، بل وتحوله في مراحل متقدمة إلى اعتماده العنف لتغيير هذا المحيط بما يتوافق ورؤيته المرضية، وهو ما تبرزه مُخرجات هذه الإيديولوجية المتطرفة.
وهنا، تتبدى أسئلة عدة حيال الأسباب التي تجعل من مظاهر الحياة واقعًا يستفز المتطرف، ويدفعه نحو ردود الفعل المتشنجة المليئة بالتعصب والإدانة، والنظر إلى شغف الناس بالحياة واحتفائهم بقيمها وانخراطهم في دينامياتها، كما لو أن الأمر يتعلق بخطيئة ينبغي التكفير عنها، وهو ما سنتطرق إليه في النقاط التالية:
أولًا: يخاف المتطرف من الحياة لأنه لا يملك عزم مواجهتها، ولا قوة مجابهة ما تضعه في طريقه، بالأدوات الطبيعية التي تفرضها معطيات التطور الإنساني، لذا يستسلم لأوهام، ويقبل بها كبنية ثابتة في وجوده، تجعل من الصعب أن يجد الكفاءة اللازمة لأن يحيا كما ينبغي أن يحيا الأسوياء. ولأن المتطرف محموم دائمًا بتلك الخطابات المرتبطة بالكراهية والتعصب واليأس، فإنه مع مرور الوقت ترسخ الأوهام في ذهنه، ليصبح غريبًا عن الحياة كارهًا لها، ميّالاً إلى الدمار وإلى الموت والبحث عن النهايات، لذلك يمكن القول أن ثمة أزمة كفاءة في القدرة على مواجهة الحياة لدى المتطرفين هي ما يفسّر بعضًا من موقفهم منها.
ثانيًا: إن الإيديولوجيات المتطرفة هي في حقيقتها مجرد خطاب طفيلي، على هامش خطابات أخرى يعيش ويتكاثر، يكتفي المتطرف من خلالها بالاستنكار والإدانة والترهيب والتعجيز والتسفيه لما يفعله الآخرون، نظرًا لأنه لا يملك مشروعًا حقيقيًا للبناء، ولعل الأصل في تلك النبرة الحادة الغالبة على لغة المتطرف، هو تزامن تنامي خطابه مع ظهور الأزمات، فالتاريخ يعلمنا أنه حينما تنهار الدول، أو تنتشر الأوبئة، أو تحدث الأزمات، سرعان ما تظهر حركات ونِحَلٌ تُشيع اليأس من القدرة على تجاوز هذه الأزمات، وتضخم في الناس الشعور بالذنب، وتدعوهم إلى جلد ذواتهم جزاءاً عمّا حل بهم، لذا فهذه الحركات لا تكون أبدًا جزءاً من البناء بل تكتفي بخطاب جنائزي يرفع من الشعور بالإحباط واليأس وتسريع وتيرة الانهيار والهلاك، لصالح أوهام تغلّبة على عقول أصحابها، ليصبح بهذا المعنى الفناء والهزيمة للآخرين هما مفتاح التحرر وبوابة الخلاص، وتصبح الوعود بالحروب الكونية المدمرة هي المشروع الوحيد الذي يعشش في أذهان المتطرفين، كما لو أن الحياة هي المشكلة وليست الحل، وبالتالي حينما يبذل الناس جهدًا لترميم ما أحدثته الأزمات من أعطاب، يكتفي المتطرف بتكريسها والحلم بالنهايات الكبيرة، لغياب ما في جعبته من حلول لمتطلبات الحياة، لذلك فهو يتهرب منها ويدينها، لأنها محك يكشف لا محالة عجزه وفشله ودناءة نظرته وخواء عقله.
ثالثًا: أيضًا، يكره المتطرف تجليات الحياة الجمالية، لأن الثقافة التي يتغذى عليها رسّخت في داخله موت الإحساس الجمالي؛ وحوّلت وجوده في هذا العالم إلى سلسلة طويلة من مشاعر الكراهية و النفور، لذلك فإن الجمال في مختلف صوره لا يبدو له بوضوح، بل ربما لا يراه تمامًا، خصوصًا وقد أحال كل الأجناس الأدبية والفنية إلى وسيلة لتجييش مشاعر الكراهية، التي يعتبرها هي أساس قوة إيمانه، وهي مظهر انتمائه وغيرته، فأصبح إنشاده وشعره وخطابته كلها عبارة عن بيانات استعداء، ففوت على نفسه القدرة على التملِّي في أفانين الجمال، لأن كل ما يراه ينظر إليه على أساس أنه شاهد على مأساوية الفناء واللعنات التي طالت الحضارات الكبرى، لذا فعندما يبتهج الآخرون برؤية الجهد الحضاري الإنساني، تجد المتطرف يغرق في بكائيات الاعتبار والتخويف في سياق لا علاقة له بحقيقة التاريخ، وفي افتعال رديء للزهد وكراهية الدنيا، عوضًا عن أنه يمنع نفسه من التفاعل الجمالي مع المنتجات الفنية مشيطنًا لها ومتهمًا من يقف وراءها، وهو ما يحرمه أيضًا من تعلم كيفية تذوق الجمال الفني، ومن ثمة تذوق الحياة نفسها، وهذا الفقر الجمالي وتلك الخشونة الذوقية هي أيضًا عائق كبير يمنع المتطرف من الابتهاج بجمال الحياة.
رابعـًا: ختامًا، إن المتطرف هو من حيث المبدأ فئوي ضيق، لا يحتمل الرابطة الإنسانية الكبرى، إنه حبيس انتماءاته الضيقة، وهذه الوحشة التواصلية مع العالم التي تنجم عن تلك المذهبيات المفتقرة لكل حس مدني أو إنساني، تبعد المتطرفين عن المراكز الحضارية الكبرى، فتجعلهم يعيشون في جيوب مظلمة من العزلة والترقب والاحتراز، وهذا ما يقتل فيهم بالتدريج إحساس الانتماء إلى الحياة، ويخلق فيهم ردود الفعل تلك التي تصدر عنهم حينما يشاهدون حماسة الناس للتمتع بحياتهم التي يتجلى فيها البُعد الجماعي والإنساني نحو البناء والنهوض، لأن ذلك يذكّر المتطرف بعزلته التي اختارها، فيزداد في داخله الشعور بالاغتراب والكراهية اللتان تزيدانه بُعدًا عن الحياة واقترابًا من أحاسيس التدمير والموت، والمتطرف بهكذا حال ليس مجرد كاره للحياة، بل هو كائن فاشل في القدرة على فهمها وتقديرها حق قدرها، ومريض بمشاعر الموت وهلوسات الفناء، ما يستوجب حاجة مُلحة لمكافحة إستراتيجيات التنظيمات المتطرفة المعادية للحياة بالمزيد من البناء والتنمية.