بقدر يقظة الفكر بقدر مناعته ضد الانسياق وراء المواقف المتطرفة، وبالمقابل، كلما وقع الفكر في الخمول ومال إلى الكسل، إلا وأصبح عُرضة للوقوع في قبضة شبكات الاستقطاب التي تنشرها التنظيمات على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تعتمد خطابًا شعبويًا، يلعب على الحساسيات الضيقة، وإشاعة الأخبار الزائفة التي تصبح مع مرور الوقت بمثابة الوقائع الثابتة، التي يبرر من خلالها المتطرف مواقفه العدائية ضد كل من لا يشاركه الانتماء إلى تنظيمه، وبالمقابل ليصبح وصيًا على أتباعه في كل مناحي حياتهم؛ فكرًا وإحساسًا ومواقفًا، إذ يستطيع من خلال التنشئة التنظيمية، التي أصبحت في الجيل الأخير من المتطرفين، تجري على نحو سريع للغاية، بحيث تغيّر إحداثياتهم الفكرية والوطنية، مُفقدة إياهم مرجعياتهم الأصيلة، وثوابتهم الأساسية، فيتحولون بذلك إلى كائنات فارغة تكتفي في سلبية بتضخيم صدى مقولات التطرف، التي ما فتئت تُسمم الحياة، وتشوّه هوياتها، وكل ذلك دون أن يكون لدى المتطرف أي استعداد لبذل جهد إعادة التفكير، أو التحقق من كل تلك المسلمات الزائفة التي تحشو عقله فتغشاه بحجاب من جهل.
إذن قبل أن يكون المتطرف حقودًا وكارهًا ومتعصبًا لكل من لا يشاركه انتماءه التنظيمي، فهو شخص فارغ، يستعيض عن المعرفة الصلبة، التي تقتضي بذل جهد التمحيص والنظر، بإيديولوجيات تحريضية عنيفة، تخلق لدى أتباع التنظيمات ذلك الانغلاق الذي يظهرون عليه حتى إزاء شركائهم في عالم التطرف والإرهاب، بل إن الخلاف والشقاق والانشقاق داخل نفس التنظيم، كثيرًا ما يجري على منوال كارثي من الاقتتال والتكفير والتهديد والوعيد، على اعتبار أن المتطرف لا يحمل في رأسه أفكارًا تناقَشُ، بل قناعات عمياء تراكمت في وجدانه، بفعل مؤثرات أكثر منها استدلالات عقلية؛ إنها سحب سوداء من أخلاط فكرية، تتداخل فيها الحكايات والانفعالات والادعاءات، يستحيل تفنيدها بحجج مضادة، وذلك بكل بساطة لأنها لم تُبن على أساس الحجج العقلية، ولكن انطلاقًا من أحكام انفعالية، مرضية في أغلب الأحيان، لهذا حينما يتوجه المتطرف نحو مخالفيه، فهو لا يكون قادرًا على الانخراط في حوار بناء معهم، بل ما يجيده هو خطاب الاستثارة والسجال والخصام والكذب والخداع والمكر، وهذا العجز عن الحوار هو في الواقع نتاج لتلك الانفعالات العمياء التي يعيشها المتطرفون، ويمكن تلخيص ذلك من خلال التالي:
- أولًا: تركّز التنظيمات المتطرفة على الترويج لنفسها من خلال الشعارات، فيجعلها بشكلٍ ما لا تكلّف الملتحق بها أي معرفة تذكر، إذ يكفي التفاعل الحماسي مع بعض الجُمل المسكوكة، التي تتكرر باستمرار في خطاب التنظيم، والتي تعد الأتباع بالخلاص، وإن أكثر ما يستفز هؤلاء هو جرّهم إلى محك التحقق والتمحيص، الذي سيثبت لا محالة أن بساطة الشعارات هي تعبير عن تبسيطية تُخفي جهلًا كبيرًا بدقائق الأمور وتعقيداتها، وهي الجوانب التي لا يقبل المتطرفون الخوض فيها أو الاقتراب منها. ولقد خلق تضخم خطاب الشعارات بين جماعات التطرف، جيلًا من الإرهابيين الذين يحوزون كل المتطلبات للانخراط في أبشع العمليات، عبر جلسات سريعة قد تمتد لشهور قليلة، بل وأحيانًا لأسابيع معدودة، أمام مواد رقمية يحرص أصحابها على اختزالها في شعارات.
- ثانيًا: من المعلوم أن حياة المجتمعات قائمة على مبدأ توزيع المهام، فلم تخرج المجتمعات البشرية من حالتها البدائية، إلا حينما تشكّلت داخلها مؤسسات تُشرف على ضبط المهام المنوطة بكل فرد إزاء المجتمع، ولهذا فإن المسؤوليات الاجتماعية ليست طوعية كما قد يعتقد البعض، وليس من المسموح التملّص منها تحت أي ذريعة، إن المجتمع ليس ناديًا ننتمي إليه متى نشاء، ونغادره متى ما نريد، بل هو إطار سابق على الفرد، وما كان لهذا الأخير أن يصل إلى ما هو فيه من تمدن وكفاءات ونِعَمً لولا أفضال المؤسسات عليه، إلا أن هذه الأخيرة ليست مجرد جماعة تُغري الفرد بتحقيق أحلامه، بل هي تضعه أمام مسؤولياته وتُلزمه بأن يَفِيّ بها تحت طائلة القانون، سواء كمواطن أو مُقيم أو كرب أسرة، أو كعامل، أو غير ذلك من المهام، وهنا يظهر التنظيم المتطرف كبديل للشخص الفاشل حيال مسؤولياته الاجتماعية، بمثابة حفرة تسمح له بالهروب من الحياة الاجتماعية بمسؤولياتها. إن التنظيم يحاول سرقة المهام المُؤسَّسَةِ داخل المجتمع في نوع من الادعاء المسرحي، حيث تُمنح ألقاب وصفات لمن لا يستوفي أي شرط من شروطها، وهكذا تصبح المهام المنظمة عبر مؤسسات اجتماعية، في مهب رياح الأهواء والتخيلات، فإذا بالفرد النكرة، والفاشل في مسؤولياته الاجتماعية، يجد نفسه وقد حاز تشريفات وبطولات تُثير السخرية. وهكذا، ولأن التنظيمات المتطرفة تخسر دائمًا مشروع تعويض المجتمعات والقيام مقامها، فهي تختار الهروب من الحياة، والترويج للفوضى والعنف، وكلما انكسرت أوهام المتطرفين أمام محك الواقع، وجسامة المهام التي ادعوا القدرة على الاضطلاع بها، يهربون من مسؤولياتهم نحو نظريات المؤامرة، وهكذا دواليك.
- ختامًا: إن أهم وسيلة لتحصين المجتمعات ضد التطرف، تكمن في تربيتها على ثقافة بذل الجهد في كل شيء، وعلى قيم العمل، وعدم الاستسلام للمقاربات التبسيطية، وللشعارات الرنانة الجوفاء؛ وذلك عبر تحميل الأفراد مسؤولية استعمال عقولهم بشكل نقدي، وحماية استقلاليتهم من كل ما من شأنه أن يعود بهم نحو حالة القصور، ومن احترام المؤسسات وصونها من كل محاولةِ استحواذ أو تخريب، فكل ذلك سيوقظ في الفرد قوى داخلية تمنع وصول تأثير التنظيمات بأشكالها إليه، ومن ثمة تُحصنه من التطرف.