اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. التدريب الجامعي

مقتضيات الاجتهاد وضرورات المصالح

د. منصور الشمري الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف – "اعتدال"

هناك أسئلة ترتسم بشكل شبه آلي في ذهن المتتبع لظاهرة التفاعل الديني، وهو يتابع بشكل يومي التفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي، وداخل المعامل الآيديولوجية للتنظيمات المتطرفة، التي لا تنفك تُجدد ترسانتها تبعاً لمصالحها التنظيمية الضيقة، مستعملةً في ذلك كل ما يقع تحت قبضتها من نصوص شرعية، تعمل على تطويعها لتُقَوِّلها ما يناسب أهدافها، ومن معطيات الواقع السياسي، الذي تتخذه مادة خاماً لبناء خطاب تضليلي، كثيراً ما يسبب ضبابية أمام العقول غير المحصنة ضد ألاعيبه الماكرة، وهذا يدفعنا لنطرح بشكل مباشر السؤال التالي: ما الذي يجعل عالم دين في إطار مؤسسات رسمية يستعمل نفس النصوص والأسانيد الشرعية، يقدّم دوراً جيداً داعماً للاستقرار في وطنه، بينما يتحوّل نظيرٌ له في الاستدلال الديني ذاته إلى وسيلة لإشاعة الاضطراب والتحريض على العنف، وتدمير الأوطان؟ هل هناك كيمياء خفيّة التركيبة تسمح لنا بأن نفهم هذا المنقلب الغريب لنفس الثقافة الدينية التي تلعب الدور وضده، أحياناً حمايةً للحرمات المقدسة للإنسان، فيما يجعلها البعض بوابة لانتهاك هذه الحرمات، من دماء وأموال، من دون أن يشعر فاعلها بوخزة ندم في ضميره الأخلاقي، الذي يبدو عاطلاً تماماً خلف قناعات آيديولوجية عميقة؟

إن مَرَدّ ذلك في ظننا يعود إلى خلط قاتل بين أمرين، من حيث الموضوع، ومن حيث المنطق الخاص بكليهما، ونقصد هنا السلطة الدينية في بُعدها الرمزي من جهة، وسياسة الدولة في تدبير الشأن الديني في بُعده القانوني من جهة أخرى، ورغم ما يبدو ظاهراً من تقارب المعنيين، فإن تدقيق التعريف سيجعلنا نفهم مدى البون الشاسع بين العبارتين:

1- أما السُّلطة الدينية فهي تُحيل إلى حجم القيمة الرمزية لعلامات معينة بالنسبة لأرواح وعقائد المؤمنين بها، وخصوصاً مسألة الخلاص المرتبطة بالجنّة والنار، مما يجعل لها وطأة على قناعات أتباع دين بعينه، بحيث تبدو لها هيبة وسطوة يجعلها أشبه بالسُّلطة الحقيقية في المجالات المرتبطة بها، ولعل هذا ما يجعل أماكن العبادة بالنسبة لكل الأديان مكاناً نُظهر فيه مدى تَهَيُّبِنا وإجلالنا للعلامات الدينية المشتركة، التي يرتسم أصلها بعيداً عن الواقع اليومي، لأن مهمتها الأساسية هي حماية تلك المُثل العُليا التي تتجاوز قانون الزمان والمكان، فكل دين هو في الأصل عامل تحرير للروح الإنسانية من ضغوط الاحتياجات المادية، وانفتاح على تلك الاحتياجات الروحانية التي تتخطى أُفق الحاضر الضيق، لكي تتصل بمستقبل كوني بعيد يُمثّل مبتغى الإنسان من الوجود ككل.

لهذا تأخذ هذه السُّلطة صورة رمزية تحيط بهالتها كل من له اتصال بالعلامات الدينية، ومن هنا إن الإجلال الذي نراه عادةً لرجال الدين عامةً، لا يقوم على الخوف من سلطتهم المادية، بل يتعلّق بمدى إيمان الأتباع بأهمية المعرفة التي يحصلون عليها بالنسبة لمصير أرواحهم، وهذا ما يجعل منها سُلطة رمزية خالصة، تُحدث تأثيرها على المؤمنين من دون أن تكون مضطرة لاعتماد نظام عقوبات عينية، ما دام أن صولة السُّلطة الدينية على الأجساد لن تُجدي في شيء، إذا ما انفلتت الأنفس والأرواح، وفقدت إيمانها الطوعي الذي هو أساس كل انتماء ديني.

2- في المقابل، إن تدبير سياسة الدولة للشأن الديني جزء من تدبير الشأن العام الذي لا يتشكّل فقط من الاحتياجات الروحية، بل يتجاوزه نحو المتطلبات اليومية للإنسان في كل ما يتعلق بحياته المادية المختلفة، وإذا كانت السُّلطة الدينية متحرّرة زمانياً ومكانياً من الواقع ولا تقوم بحل مشكلات الناس اليومية بشكل عملي، فإن السياسة عموماً هي فن الممكن، وهي الالتصاق القريب بالحياة اليومية في تداخلها وتعقدها وبساطتها، بغض النظر عن الآفاق البعيدة للمُثل الكونية التي يمكنها أن تعطينا إجابات حول أسئلتنا الوجودية، والتي لا تفيد بشكل مباشر في علاج الإنسان من أمراضه الجسدية، أو حماية أمنه من اعتداءات تحدق به من كل جانب، داخل حياته الواقعية التي لا تخضع بالضرورة لصوت الفضيلة، ما دام العالم كما هو لا كما يجب أن يكون، فالدولة بهذا التصوّر ليست عالم رجال دين، بل عالم مواطنين تختلف قناعاتهم وتوجهاتهم، وتتباين قدراتهم في الخضوع للوازع الأخلاقي والديني.

بهذا المعنى تحديداً فإنَّ سياسة تدبير الشأن الديني هي إدارة رجل السياسة بالمقام الأول من خلال سلطته المادية، القائمة على صلاحياته الشرعية في استعمال الوسائل الرادعة، والداعمة، لذلك الجانب من الدين المتصل بشكل مباشر بالحياة الواقعية للناس، وحسب سُلمٍ من الأولويات يرتسم من خلال تداخل مصالح ومطالب من طبائع مختلفة، فرجل السياسة مثلاً غير مَعنِي بما يختلج في أرواح المصلين من خشوع، وما يحدو أرواحهم من غايات بعيدة، إذ ينصب اهتمامه برعاية شؤون المساجد على ضوء السياسات العامة، التي تتضمن ما هو اقتصادي وأمني وصحي إلى غير ذلك من الواجهات، ولهذا، فإن منطق السياسة يختلف بشكل جذري عن السُّلطة الدينية، فما يقوم على أساس الخضوع الطوعي القائم على الإيمان بقداسة العلامات الدينية من حيث هو دافع روحي، يرتبط في الحالة السياسية بخضوع إلزامي لسُلطة قانون الدولة التي تهتم برعاية مصالح المواطنين، وحفظ الدولة وصيانتها.

ونعتقد هنا، أن المنزلق الأساس لبعض رجال الدين نحو التطرف، يكمن في الخلط بين المستويين، والسعي نحو استثمار السُّلطة الدينية الرمزية داخل المجال السياسي، المرتبط أساساً بالمؤسسات الرسمية والسياسية لكل بلد على حدة، ومن هنا فهو يخلط بين الأنظمة الدولية، والمواثيق، ومفهوم العلاقات التي تتجاوز حدود دولته، ويظن أن السُّلطة الدينية مرجعيّة أولى فوق كل اعتبار، وفي المقابل، هذا هو بالضبط ما يجعل رجل الدين المعتدل الذي يعرف حدوده، وفهم خصوصيته الرمزية، من دون أطماعٍ وخلط، محل تقدير واحترام.

إنَّ المناعة التي يحملها رجال الدين الأجلاء ضد التطرف الذي كان سبباً في إهراق دماء طاهرة، وتدمير ما قضى الأولون من سنوات طوال في تأسيسه، تعود إلى قدرتهم على ضبط المسافة الفاصلة بين المُقدس والدنيوي، فهؤلاء على وعي تام بأن أمور الإيمان معقودة على تشبّث الأتباع بقناعاتهم الدينية الخاصة، والتي لا يمكن بحال أن تصبح متجانسة وموحدة بين الناس جميعاً، فقد قال تعالى «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» (هود: 118)، وهذا ما يجعلهم يقبلون بأن تظل الأمور الإيمانية من حيث هي تجربة روحية، أو خصوصية ثقافية موضع خلاف مستمر، سواء داخل ذات الدين بحكم اختلاف المذاهب الفقهية والعقائدية، أو ما بين الأديان عامة بحكم تباين القناعات الإيمانية، ولهذا السبب، إن العالم الصالح في مجتمعه، المعتدل في طرحه، يعرف أن سلطته الدينية الجليلة تظل في حدود أفقها الشاسع، لكن داخل جماعة دينية مُحددة، وفي إطار مستوى معيّن داخل الحياة الإنسانية، وتحت المساءلة القانونية دوماً، وهذا ما يمنعها من أن تتحوّل إلى سُلطة شمولية، ستضحى بالضرورة – لو تُركت – مضطرة إلى استعمال قوة السلاح، لفرض سياج يستند إلى الخوف على العقيدة، أكثر من استناده إلى الإيمان.

إن مروق رجل الدين يُمثّل خطراً مزدوجاً، فهو من خلال قدرته على إشاعة التضليل على المستوى الديني والسياسي بين أتباعه، يخلق جماعات متمركزة على ذاتها، لا تملك الكفاءة المدنية الكفيلة بجعلهم يقبلون بأي شيء سوى جماعتهم فحسب، لهذا فهُم في قلق مستمر، وعدوانية للجميع، سواء لرجال الدين المعتدلين الذين لا يستعملون الدين وسيلة لتصفية الحسابات الضيقة، أو لرجال السياسة الذين يعملون لحماية الدولة عبر الأنظمة لتحقيق الاستقرار، من هنا يظهر خطرهم المزدوج الذي يهُم الدين والسياسة، ولذلك فهو يُطال بعنفه العقول والأرواح والأجساد معاً، من خلال التشويش على المشروعية الدينية، والمشروعية السياسية، والقيم الإنسانية، وهذا يقتضي استراتيجية ثلاثية، نقدمها في صورتها العامة، مع أمل العودة إلى تفصيلها لاحقاً:

– تحصين المشروعية الدينية بإعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية ذات العمق التاريخي البعيد، والتي مثّلت دائماً شاهداً على أن التوتر حول اختلاف المنطلقات المذهبية، لا يُبرر بالضرورة الدخول في صراعات دموية، بل إن نفس المؤسسة الدينية، كثيراً ما رعت الاختلاف المذهبي، وبالتالي فإن تأكيد الصورة التعددية للإرث الفقهي والعقائدي، يمكنه أن يُعَطِّل تلك الاختزالية الضيقة التي يُرَوِّج لها المتطرفون، في جهل كامل بغِنى الثقافة الدينية، وبقابليتها الكبيرة للاختلاف والتنوع.

لكن سيكون من المهم كثيراً توفير مناخ أكبر للتعاون والتنسيق بين المؤسسات الدينية الكبرى، بتمكينها من إطار جامع، يسمح لها بالتداول عبر ممثليها الرسميين وغير الرسميين، في النوازل الكبرى التي تهُم القضايا الإسلامية المصيرية، وملء الفراغ وشتات المجهودات الذي يعاني منهما المجتهدون المعتدلون في البلدان الإسلامية.

– تحصين المشروعية السياسية بضبط حدود صلاحية السُّلطة الدينية، التي كما رأينا سابقاً تكمن قداستها في طابعها الرمزي والإيماني، لهذا فهي سُلطة لا تستعمل وسائل الإكراه، بكل بساطة لأنه لا إكراه للأرواح، في المقابل إن السُّلطة السياسية هي في جوهرها لا تربط بما هو طوعي واختياري، بل بما يدخل تحت طائلة القانون. ومن هنا ضرورة التمييز بين الفتوى الدينية في الأمور المصيرية، والقانون في صورته السياسية، فإذا كانت الأولى اجتهاداً قابلاً للاختلاف في القضايا التي تهم حياة الناس المباشرة، فإن القانون هو قرار سلطة مؤسساتية يتكفّل القضاء بتحكيمه، والحكومات بتنفيذه، ومن هنا فهو لا يقبل الاختلاف، ولا يسمح بالاستثناء.

– تحصين المصداقية القيمية للإنسانية، من خلال مؤسسات مهمتها مواجهة ثقافة التضليل التي تسعى إلى تكريس الصراعات، وتنمية العداء بين المعتقدات، وذلك بتفنيد الشبهات العدائية التي تسعى إلى الاستعمال غير المشروع وغير المناسب للنصوص الدينية.

ختاماً، نودُ تأكيد أن حكمة علماء الإسلام الأجلاء وحصافتهم، تستوعبان منذ القدم أهمية ومصيرية ضبط المسافة بين مقتضيات الاجتهاد وضرورات المصالح والحاجيّة والتحسينية، مما يفيد بأن عنايتهم بضوابط القول الديني لم تجعلهم أبداً يغفلون عن أثره في حياة الناس، وما قد ينجم عنه من عَنَتٍ وتعطيل لمصالحهم، ومن هنا جاء انضباطهم الشديد لسُلطة ولاة الأمر، وذلك، على خلاف بعض الحالات المخيفة التي كثيراً ما آلت مواقفهم إلى أزمات مفاسدُها جرّت بلادهم إلى الفوضى.

*نشر في صحيفة “الشرق الأوسط” الأحد 6-9-2020