مصائب التطرف والطريق نحو الانحدار الأخلاقي

لا أحد في منأى عن الوقوع في زلات التقلب المزاجي أو الذوقي، إذ قد يجرنا أحيانًا التفكير المتسرع والإنفعال الطارئ غير المتحكم فيه، إلى إصدار أحكام أو اتخاذ مواقف تغلب عليها الحماسة الزائدة والاندفاع اللحظي، لكن الفرق بين الشخص السوي المعتدل وبين المتطرف؛ هو أن الأول يُخضع نفسه وأفعاله باستمرار لمراجعة فكرية وأخلاقية، ويعمد إلى تعديل كل سلوك غير مناسب؛ لأن مثل تلك الأفعال هي في العادة نتاج عرضي لحالة عابرة، بينما المتطرف يسعى إلى تأكيد وترسيخ إنفعالاته المتطرفة التي تُحركها إيديولوجيات منحرفة، فيعمل على تبريرها محاولًا تمرير ما يُعتبر في الواقع خروجًا عن جادة الاعتدال والمروءة والأخلاق والعقل، والدعوة إلى تلك الأفعال المشينة التي هي في نظر المتطرف كمال أخلاقي لا يصل إليه سوى النخبة من الأتقياء.

إن المتطرف بهذا المعنى يصل بالنزوات العابرة إلى حالة مَرضية مزمنة، فما يُمثل بالنسبة للآخرين أخطاء واردة عابرة تلزم التصحيح، يُمثل للمتطرف منهجًا يدعو الناس إليه، ويسعى إلى تدمير العالم من أجل شيوعه ونشره على أرض الواقع، ولهذا فتطرفه يتحول مع مرور الوقت إلى منظومة قيمية منحرفة، يُمكن أن ندعوها بمنظومة اللاأخلاق، فالفضيلة لا يُمكنها أبدًا أن تتعايش أو تتقاطع مع التطرف بأي شكل من الأشكال، والرذيلة بالتأكيد هي وليدة الخروج عن الاعتدال في الفكر والسلوك، وفي النقاط التالية نورد بعضًا من منظومة التطرف اللاأخلاقية:  

  • أولًا: إن أول صفة تنخر ذوات المتطرفين هي الكراهية، فهي بشكل ما قوام التطرف وجوهره، حيث لا يتوقف المتطرفون عن تغذية وتأجيج كراهيتهم نحو الآخر، لأن ذلك الشعور يُمثل محركهم ودافعهم لبناء السلبية حيال العالم، وتنتقل مشاعر الكراهية تلك لدى المتطرف في الغالب بشكل عكسي، حيث تنطلق من العام إلى الخاص، إذ يشرع المتطرف في التعبير عن مشاعر الحقد والكراهية تجاه كيانات مجردة أول الأمر، فيدين كل مختلف عنه من المجتمعات الأخرى ويكيل لهم أشد العدواة ويصفهم بأبشع الصفات، لكن سرعان ما ينتقل نحو التعيين والتخصيص، فتراه يبدأ في مُناصبة العداء لأفراد بعينهم، وقد يكونوا في بعض الأحيان شخصيات عامة، إلى أن يقترب من خاصة أهله وصحبه، حتى أن يصل برؤيته المنحرفة المجرمة إلى والديه وقد سهرا على تربيته وتنشئته ورعايته بكل عناية وحب، وهو ما يرده لهما بالنكران والتعنيف والإدانة، وهنا من الأهمية بمكان أن نحذر أشد الحذر من خطاب الكراهية العامة؛ التي تظهر بادئ الأمر كنوع من التعبير عن الرأي الخاص قبل أن يتضح نصلها القاتل، لأن ذلك هو مفتاح الكراهية المتوحشة التي تُعطي للمتطرف ملامحه القاسية واللاإنسانية، وبالتالي من المهم تهذيب الخطاب السائد داخل المجتمع، والحيلولة دون تعايشه مع الكراهية المجردة المواربة، عبر المنابر المتعددة ومن أهمها وسائل التواصل الاجتماعي، فهذا وحده يُساهم في الحد من ترسيخ ثقافة الكراهية في صورتها غير المحتملة.
  • ثانيًا: تتجلى الصفة الثانية التي تحقق للتطرف ملامحه الخاصة، في ما يُمكن دعوته بالعقل السردي، فالمتطرف لا ينظر إلى العالم إلا من خلال حكايات غابرة، فهو يؤسس مشروعه العدمي الأهوج انطلاقًا من ثأر منسي، ودائمًا مايحاول الثأر لجرح هُوياتي وهمي، ولهذا يتمثل خطاب التطرف في العادة في صورة تذكير بالماضي ومرافعة ضد نسيانه؛ ويُمكن القول أن المتطرف حسب اعتقاده هو الوحيد الذي يتذكر ما نَسِيَهُ الآخرون، ولهذا فهو من جهة يُحضر نفسه باستمرار للانتقام، كما أنه من جهة أخرى يُغرق بإداناته كل من يحيط به ممن لا يشاركونه هذه الرغبة الدموية، ولأن الأمر لا يرتبط بأحداث معاصرة، ولا بمبررات ملموسة على أرض الواقع، وإنما بحكايات وسرديات يتداخل فيها التاريخ مع الخيال، فإنه من الصعب إقناع المتطرفين عبر العالم بخلاف رؤاهم، لأن الحكايات ليست حججًا ولا استدلالات، ولهذا فإن تفنيدها يُصبح شبه مستحيل إذا ما استحكمت في العقول والأفئدة، بل علينا بالأحرى أن نستبق هذا العقل السردي ونمنع عنه عناصره الأولى، بحيث نُجنب أبنائنا تداول حكايات مجتزئة من سياقها، ونُبدع أعمالًا سردية جديدة تُصالح الناس مع ماضيهم، وتكشف لهم اللحظات الإنسانية السامية، حيث ساد الوفاق والتسامح والتعايش، وتُظهر التفاصيل التاريخية لما اختلط في الخطاب المتطرف من قصص مختلقة ومزيفة، لأننا إذا فهمنا التاريخ بشكل دقيق، فسيكون من الصعب أن نقع في مكر حبكة التطرف الاستعدائية وحكاياته الدموية.
  • ثالثًا: تتجسد الصفة الثالثة في الإيمان بالعنف كحل وحيد لتنزيل الرؤى والمشاريع، ومن المفارقات والغرابة في الأمر أن أولئك المتطرفين ينطلقون دائمًا من كونهم لا يملكون ما يكفي من أدوات القوة، ولكي يحققوا ثأرهم المزعوم؛ فهم يمارسون إستراتيجيات التأثير المخادعة حيث يلعبون في أدبياتهم الإنشادية والشعرية والخطابية دور المستضعفين والمظلومين والمقهورين وغير ذلك من عبارات الاستجداء العاطفي، لكنهم في نفس الوقت أحرص الناس على جعل العنف دينهم ودَيدنهم، ولهذا فإن الإرهاب يُعتبر بالنسبة إليهم العنصر التعويضي لقلة حيلتهم؛ وهذا يُبرر بالنسبة إليهم اللجوء إلى أساليب العنف ومنها حرب العصابات والاغتيالات والخطف وما إلى ذلك من الأساليب الإجرامية القذرة، إن عنف المتطرف مبرر باسم عنف آخر متخيل، فهو يقتل ويفاخر بذلك عبر منشوراته، وينظر إلى ما يقارفه من جرائم كشجاعة وانتصار، لكنه لا يكاد أن يجد نفسه في مواجة للمسؤولية الجنائية على هذه الجرائم، حتى يتبنى خطابًا مغايرًا، فيرى في العنف صلفًا وظلمًا وتنكيلًا، ومن المفارقة لدى المتطرف أن مايقوم به من عنف وجرائم هو في نظره بطولة وإن نال الجزاء القانوني لفعله ذلك فهو ضحية، وهذه الازدواجية هي ما تجعل المتطرفين غير قادرين على استيعاب معنى المسؤولية القانونية، وكذلك دلالة الواجب الأخلاقي تجاه الآخر، ولهذا إن الصرامة القانونية مع المتطرفين هي دواء مستحق لحماية المجتمعات من شرورهم.
  • ختامًا: إن أبعاد المنظومة اللاأخلاقية للتطرف تتجسد في مصائب ثلاث تؤدي إلى ذلك الانحدار الأخلاقي الذي يتنافى مع كل الفضائل وكافة القيم الأخلاقية والإنسانية، فجوهر التطرف ومحركه هي مشاعر الكراهية التي تخلق حالة من العداء نحو الآخر وتشعل نيران العنف والوحشية وتمعن في تأجيجها، وتلك المشاعر المقيتة تُغذيها خيالات وهمية لدى المتطرف تجعله يعيش ماضيًا غابرًا؛ يحاول إثبات وقائعه بقصص مزيفة ورؤى مختلقة في شكل منفصل عن الواقع ومعطياته الراهنة، وحينما تتضافر هذه القرائن في تشكيل شخصية المتطرف، يكون قد وصل إلى درجة متقدمة من اللاأخلاقية، التي تجعله يُهدد الأرواح والممتلكات وينتهك الحرمات ويُدمر استقرار المجتمعات وأمنها، وهو ما يؤكد مدى الانحدار الأخلاقي الذي يؤدي إليه التطرف.