للمجتمعات كيانان أساسيان، واحد مادي يتشكل من كل مواردها الملموسة من مواد أولية ومن غنى في المجال الجغرافي للبلاد، وتميّز في الموقع الجيوسياسي، إلى غير ذلك من الخيرات العَيْنِيَّةِ القابلة للتِّعداد والمعاينة، أما الكيان الآخر فهو غير مرئي ولا ملموس، والذي يمكن أن ندعوه بالكيان الروحي للمجتمعات، حيث يتشكّل من العمق التاريخي، والآثار برمزيتها الثقافية والحضارية، ومن التنوع اللغوي والفني، ومن الرموز السيادية التي تُمثّل النواة الصلبة والحيوية للهوية الوطنية، ما يجعل أي مساس بها هو بمثابة الاعتداء على الأعضاء الحيوية للأجسام الحيّة. ولا تستقيم حياة الشعوب إلا بالانسجام والصّوْنِ للكيانين معًا، فكما أن الدفاع عن الكيان المادي يعتبر أمرًا شرعيًا وضروريًا لا جدال فيه، فإن العناية وحماية الكيان الروحي، والرأس المال اللامرئي لا تقل أهمية ومصيرية عن مهام حماية الرأس المال المادي.
وما فتئت التنظيمات المتطرفة تتربص بأي فرصة ضعف أو وَهَنٍ لكي تنقض على تدمير واستباحة ونهب ما يقع تحت أيديها من الموارد المادية، بل إنها تتصرف في أغلب الأحيان على غرار قُطاع الطرق والمهربين، وهي تسلب الناس متاعهم وأمنهم ومدخراتهم، قبل أن تبدّد أرواحهم وتسفك دماءهم، وتزرع بينهم أحاسيس الخوف واليأس وعدم الأمان، الأمر الذي ينتج عنه تعطيل وتخريب عدة قطاعات تتعيّش بها المجتمعات، وتُمثّل مصدر رزق لأغلب سكانها، من قبيل السياحة والتجارة والتنمية عمومًا؛ وهذا ما لا تخفيه هذه التنظيمات في إستراتيجياتها المعلنة، فهي تعتبر نجاح التنمية داخل أي مجتمع شاهدًا على فشل مشروعها، وبالتالي كلما تمكنت من كسر عجلة التنمية بعملياتها الإجرامية، تجدها تسارع للمفاخرة بذلك عبر منشوراتها المختلفة. إن الصورة الإجرامية للمتطرف تبدو في هذه الحالة واضحة وجلية، حيث لا يبدو هنالك من فرق بين قاطع طريق بغيض وأحمق وبين إرهابي دموي وماكر، فكثيرًا ما نجده في شبكة إجرامية واحدة مع قطاع الطرق والمهربين.
غير أن الاعتداء على الكيان الروحي من طرف المتطرفين يجري على نحو أقل وضوحًا وانكشافًا، لأن المتطرف في هذه الحالة يلعب دور المصلح، الذي تدفعه فقط غيرته على منظومة قيم المجتمع، بحيث يُعرّض نفسه للخطر في سبيل الحفاظ عليها وحمايتها، وهو بهذا المكر المخادع يتمكن أحيانًا من التلاعب بمشاعر البسطاء، بينما هو يسرق ويستغل رأس المال اللامرئي لصالح أغراضه التنظيمية الخبيثة والضيقة. ولكي يتحقق له هذا السطو على الكيان الروحي للشعوب، فإنه يلجأ إلى خديعة المماثلة الزائفة؛ إذ يتقمّص دور المصلح والعالم والجندي وغير ذلك من الأدوار الحيوية، ويحاول أن يصطنع نفس ملامحهم وألقابهم وقواعدهم السلوكية، لكنه يمرّر عبر هذه المماثلة الزائفة العكس المطلق لمهام هؤلاء ورسائلهم؛ فشبيه المصلح المتطرف تراه ينقض الإصلاحات ويحُول دون استمرارها، وشبيه العالم ينشر الجهل والشبهات والفرقة، والمقاتل الإرهابي عكس الجندي النظامي، غايته إشاعة العنف والأزمات عوض محاولة إنهائها، واستجلاب الأعداء إلى بلده بدل دفعهم عنها، مثلما هو دور الجندي الوطني. إن المتطرف ينهب الكيان الروحي للشعوب في صمت قاتل، ومن هنا صعوبة وخطر مواجهته على هذه الجبهة، والتي نوجزها في النقاط التالية:
- أولًا: إنه يحاول أن يسرق الرمزيات ذات القيمة العُليا لدى الشعوب، وذلك من خلال إعادة توظيفها وتأويلها خارج إجماع المؤسسات الرسمية للمجتمعات، في محاولة لإيجاد مظلة شرعية مزعومة لاختياراته المجرمة؛ وهكذا نراه يتلاعب بالنصوص، مقتبس ما يشاء منها، وملفقًا إياها كيفما أتفق، ليجعل الناس البسطاء يثقون به وبما يقول؛ وهذا ما يجعل اكتشاف خطره صعبًا على الناس، بحيث يحتاجون لوقت أطول، كي يتمكنوا من فهم الطبيعة الشيطانية للخطاب المُفتعل والزائف، عكس ما هو الحال حينما يشاهدون العمليات الإرهابية الواضحة، التي لا تحتاج منهم لجهد لكي يقتنعوا بطابعها الإجرامي. لهذا من المهم منع المتطرفين من السطو والتلاعب برأس مال روحي كبير ومصيري بالنسبة للشعوب.
- ثانيًا: يسعى الفكر المتطرف إلى الاستحواذ على لغة الشعوب، فتراه يختلس كلمات من قواميسها ويبث فيها معاني غريبة لم تكن متضمنة في دلالاتها أول الأمر، وحينما يتمكن من ذلك، فهو يصبح قادرًا على التلاعب بعقول الشعوب، من خلال هذه الكلمات التي أجرى عليها تزويرًا خطيرًا؛ ولعل كلمة (جهاد، مؤمنين، كفار، منافقين، مرتدين، ظلم، عدل، خير، وشر)، كلها مفردات شُحنت من قبل المتطرفين بمعاني لا أصل لها في لغة الشعوب، وبقدر ما جرى بثها في خطاباتهم، أصبحت تبدو كما لو أنها دلالات أصيلة لهذه الكلمات، والحال أن تدقيق المصطلحات وأخذها مأخذًا منهجيًا صارمًا، تفضح مدى التلاعب اللغوي الذي يمارسه الخطاب المتطرف في حملاته وعبر مطبوعاته. ويكفي في رأينا التدقيق العلمي لمعجم التطرف، لكي ينكشف تهافته الدلالي وزيفه المفاهيمي، كما أنه من الضروري جدًا إعادة المعاني الأصيلة للكلمات، والتمييز ما بين أصولها الاشتقاقية والمعجمية الأولى، وبين أبعادها التداولية السياقية، وبين حقيقتها الاصطلاحية الدقيقة والثابتة، إنه من الواجب استعادة اللغة من المتطرفين من حيث هم لصوص كلماتٍ، ومحتالو لغةٍ.
- ثالثًا: إن المتطرف هو مختلس لذاكرة المجتمعات، حيث تراه حريصًا على بناء سرديات مُختلَقة من وقائع تاريخية، يُجري عليها منظرو التطرف عمليات إعادة ترتيب وتوليف وتأليف، كي تناسب شعاراتهم الزائفة، وهم لا يتورعون في هذا الصدد عن إعادة استثمار كل الموروث التاريخي في سبيل بناء أوهامهم وإشاعتها، مستعملين في ذلك الشخصيات السياسية والتاريخية والفكرية في انتهازية صادمة، حتى يجعلوا كل أبطال التاريخ كما لو أنهم جزء من التنظيمات التي يروجون لها. ولهذا، وحماية لهذا الموروث التاريخي، وصونًا للذاكرة الجماعية من احتيال المتطرفين، ينبغي أن تكون من أولوياتنا تعريف الناس بحقيقة تاريخهم، وحماية الشخصيات التاريخية الكبرى من أي عملية تطاول أو تزييف أو دعاية كاذبة.
- ختامًا: إن معركتنا الحضارية ضد التطرف شاملة ومصيرية، وإذا كانت الأجهزة المختصة قد استطاعت أن تُحَجِّم الخطر الإرهابي إلى أدنى دراجاته، بحيث أصبح المتطرفون في حالة شتات وبؤس وتيه، فإن معركتنا معه حول كياننا الروحي ورأسمالنا اللامرئي ما تزال قائمة، بل إنها ترفع أمامنا تحديات كبرى في زمن سهولة الانتشار الرقمي، لهذا من المفترض أن نأخذ هذه المعركة بكامل الجدية والصرامة والصلابة، لنحاول تطهير رموزنا ولغتنا وذاكرتنا وهويتنا من كل وسم أو بصمة أو نفس تركه المتطرفون عليها.