ليس الاعتدال ملمحًا مكتسبًا بشكل نهائي بحكم أي من الضرورات القائمة، بل هو بالأحرى وضعية دينامية تحتاج منا إلى جهد مستمر للعناية بها والحفاظ عليها، فلا أحد يولد متطرفًا أو مُحصنًا بشكل نهائي ضد الانزلاق نحو أشكال من الوجود والأفكار التي تخرج عن جادة الاعتدال، لذا فنحن بحاجة على الدوام إلى مراجعة مشاريع حياتنا، ومواقفنا، وأفكارنا، احتياطًا من أن يتسرب إليها كل ما من شأنه أن يتناقض أو يتنافى مع قيم الاعتدال، وملامحه المميزة .. كيف السبيل إذًا إلى دعم هذه الهوية والحفاظ عليها؟ وما معنى أن يكون المرء معتدلًا؟
أولًا: اليقين بأن العالم أوسع وأعقد من أن يستوعبه فكر أحادي ممتنع عن الانفتاح والتفاعل الإيجابي والتلاقح الحضاري مع أنماط مختلفة من التفكير وأنساق متنوعة من الثقافة، والاعتدال في هكذا معنى هو قبول بالتعددية في صورها المختلفة، والتعامل معها كمؤشر على الغنى الفكري ينبغي ترسيخه والتسليم باستمرار وجوده، إذ أن الاقتراب من التطرف يكون بقدر فرض هيمنة الفكر الواحد، و التعامل بعدائية مع الاختلاف و التمايز.
ثانيًا: الاعتدال هو إيمان راسخ بأهمية العقل الإنساني في بناء المواقف وتبريرها، فهو المَلَكة الجوهرية في الإنسان التي تتجاوز النسبية الثقافية والخصوصية الحضارية، لذا كلما حدث خلاف بين الناس حول قضايا تهم الخصوصيات، سيكون من الخطر تدبير مثل هذه الأزمات بالإعلاء من خطابات الإقصاء المذهبية أو الإيديولوجية، لأن هذا يكون بمثابة إعلانًا لحرب ثقافية ستجر لامحالة كل الأطراف إلى الوقوع في وضعيات تطرف وعداء تقوم على تضخيم الذات وإجحاف حق الآخر و الاستنقاص من قيمة وجوده، وعلى خلاف ذلك، يمثل العقل ذلك الجانب الكوني في الإنسان، فهو قاسم مشترك بين الجميع، بحيث إن الاستناد إليه في النقاش حول الأمور الخلافية، لا يمثل انحيازًا لطرف دون آخر، بل انتصارًا للجوهر الإنساني عمومًا، من هنا، فإن الحفاظ على الاعتدال هو قبل كل شيء حفاظ ودعم لأولوية العقل على الخصوصية الثقافية، وبالتالي هو انتصار للعقلانية كصمام أمان ضد مخاطر التعصب والظلامية.
ثالثًا: الاعتدال هو احتفاء بالحياة وإعلاء مبدئي من كل الشروط التي تساعد في تجويد وتطوير فرص التمتع بها، وإغنائها وتطويرها، في مقابل التطرف الذي يميل أكثر إلى تمجيد أفعال الفناء، وتجريم مختلف صور عمارة مناحي الحياة الإنسانية، لذلك فإن الاعتدال هو إيمان بالقدرة اللانهائية على البناء والإبداع، والرهان على أفق مستقبلي مشرق للوجود الإنساني، وبالتالي هو رفض مطلق لتلك الصور السوداوية التي يروج لها المتطرفون من خلال مشاريعهم التدميرية وشعاراتهم الانتحارية، وأنماط حياتهم البائسة، والاعتدال بهذا المعنى هو دفاع مستمر على أحقية الناس في أن يسعدوا بحياتهم، التي يُنظر إليها كحرمة مقدسة لا يجوز بأي حال المساس بها، أو تعريضها للخطر.
رابعًا: الاعتدال هو توازن في العلاقة مع الزمن، فهو رفض للنكوص المتصلب نحو الماضي، وتقديسه إلى درجة تعطل القدرة على التصرف خارج الأنماط التقليدية، عوضًا عن ذلك، يقوم الاعتدال على تفاعل إيجابي مع الذاكرة الجماعية، لكن دون تعطيل الحس الإبداعي للإنسان وقدرته على الاستقلالية والمبادرة، كما أن الاعتدال لا يُستغرق في الزمن الحاضر بحيث يعيش قطيعة نهائية مع ماضيه، أو يهمل كل ما يترتب عن أفعاله في المستقبل، فالاعتدال يتنافى مع الحس البراغماتي الضيق، لأنه يحتفظ بتطلعات حضارية كبرى تستحضر الماضي وتستشرف المستقبل، ما يفيد أن الطوباوية المتطرفة التي تؤسس مشاريعها على أساس مستقبل متخيل يفتقد للواقعية، ويتناقض مع قيم العمل والإنجاز والتحقق في شكل مكاسب ملموسة ومعقولة، وكل ذلك لا يتناسب مع الرؤية المعتدلة القادرة على خلق التوازن بين الماضي والحاضر والمستقبل.
هكذا، إن الحفاظ على وضعية الاعتدال إذًا يكمن في مدى القدرة على حماية هذه المقومات الرباعية في الحياة الإنسانية، فلا اعتدال مع الأحادية الفكرية، ولا مع الخطاب اللاعقلاني، ولا مع العدمية البئيسة، ولا مع النزعات الماضوية أو الطوباوية، فبقدر ما نواجه هذه العوامل السلبية في حياتنا الفردية والجماعية، بقدر ما ندعم الاعتدال فكرًا وحياةً وتطلعًا.