لماذا لا يستطيع المتطرف استيعاب الآخر؟

إن أخص ما يميز الفكر المتطرف هو ضيق الأفق الفكري والأخلاقي، فلا تكاد تجد متطرفًا قادرًا على أن يعيَّ ويدرك فكر الآخرين على حقيقته، أو أن يتواصل معهم أخلاقيًا بشكل سليم، فكل ما في التطرف هو قتل لروح الانفتاح على الآخر، وخنق للذات وللآخرين في مضائق مذهبية وتنظيمية خانقة؛ لهذا إن الشخص حينما يضعف أمام خطاب المتطرفين، فهو يحكم على نفسه بعزلة قاتلة، تفقده القيم الإنسانية للحياة، وتدفعه نحو أقاصي ثقافة الكراهية، إلى أن ينتهي به الحال إلى ما يصل إليه الإرهابيون من توحش في الأفعال، وتبلد في المشاعر، وفي ذلك نقاط نوجزها في التالي:

  • أولًا: المتطرف محروم من تجربة التواصل الإنساني، وتفاعلاتها العميقة، فهو في أخدود عازل، لا يرى الناس إلا عبر منظار كئيب من الأحقاد ينتهي في الغالب بتهم التكفير، التي تكون مفتاحًا لإهدار دماء الناس، وبابًا لاستقطاب المجرمين ممن يميلون إلى العنف بطبعهم، فيجدون في الإيديولوجيات المتطرفة غطاءً وسندًا لطبائعهم الفاسدة التي يحاولون مُداراتها بافتعال الخطاب الديني، والشعارات الكاذبة، ومن هنا يمكن القول أن المتطرف يفقد كفاءة استيعاب الآخر، فهو يعيش في تمركز نرجسي على الذات، فلا يستطيع أن يرى غير نفسه، وما يسقطه من ظلال سوداء على الآخرين، لكنه يفتقد الموضوعية والنضج الكافيين لكي يستوعب الآخر في تمامه وكماله، وهو يفقد هذه القدرة بفعل تشوهات يحدثها طوعًا في مجاله التواصلي.
  • ثانيًا: ينبني التطرف على التلقين الحرفي لتعاليم التنظيمات، ولا مجال في هذا المستوى للتفكير أو للحوار أو للنقد، لأن أي فعل من أفعال التفكير الطبيعية هذه تعد داخل الحواضن التنظيمية نوعًا من الهشاشة في الولاء، ومدعاة للاشتباه بالعمالة، ولهذا كثيرًا ما ينتهي المطاف بالمتطرفين الذين يسعون إلى مراجعة بعض الأفكار السائدة بينهم ، إلى أن يتحولوا هم أنفسهم إلى أهداف للمتطرفين، وغالبًا ما يجري تصنيفهم أيضًا كما لو أنهم غرباء عن التنظيم.
  • ثالثًا: لا مجال في الحواضن المتطرفة لغير تكرار نفس المقولات والأحكام التي ترددها تنظيماته دون زيادة أو نقصان، لذلك يعتبر المتطرف كل قول مخالف خيانة لعهده مع الجماعة، وعوض أن يركز على محاولة فهمه هذا القول والحوار معه، ينخرط بتلقائية في السجال العدواني، وفي تبني خطاب خصامي، الغاية منه استبعاد كل ما من شأنه أن يشوش على إيديولوجيته، أو يفتح الباب على كشف تهافتها وعدم إحكامها الفكري، وكل ذلك بعيدًا عن النية الخالصة في بلوغ الحقيقة، لهذا يمكن القول أن أول ضحايا التطرف هي الحقيقة نفسها، حيث لا يفهم المتطرف الأفكار بل يتوجه مباشرة نحو اتهام النوايا والقذف في ذمم القائلين، وذلك يفوت عليه فرصة استيعاب ما يُقال أو فهم ما يُكتب؛ وتتجلى هذه الشخصنة الرديئة للأفكار لدى المتطرفين، في تحويل فعل القراءة إلى استطلاع مشوه لنفس العبارات المسكوكة التي توجه قناعاته الإيديولوجية.
  • رابعًا: إن فقدان الكفاءة الفكرية للمتطرفين تقوم على سجنهم من طرف عرابيهم في سحابة لغوية يكررونها تعبيرًا عن قوة انتمائهم إلى الجماعة، وهذا يتشربونه من خلال الخطب والدروس، وبيانات شبكات التواصل الاجتماعي، التي تعوض لديهم الطرق الرصينة في تحصيل المعرفة، فتراهم لذلك يقضون سنوات من التلقين الإيديولوجي دون التمكن لحظة بأن يتعاطوا مع فكر آخر غير ما يُلقنون، وهذا ما يرسخ لديهم تلك النظرة الأحادية التي يوصمون بها.
  • ختامًا: يمكن القول أن التطرف يقتل الآخر رمزيًا، قبل أن يبدأ في التخطيط لتصفيته فعليًا حينما يقع في ضلالات الإرهاب الإجرامية، ولهذا فالمتطرف لا يتوقف في رحلة سقوطه عن تشرب ثقافة الكراهية والإقصاء والانغلاق، لكنه وهو يصفي الآخر وينكره ويمتنع عن التواصل معه، إنما يقتل نفسه قبل الجميع، ويغتال روحه الإنسانية الخاصة وقدراته الإدراكية، مما يحوله إلى شبح لا يثير في الناس إلا مشاعر الاستهجان والحذر والشفقة، فمن اختار أن يعيش دون الآخرين، اختار عن غير وعي الموت في غربة وعزلة قاتلة وهذا في الغالب مصير كل  متطرف.