د. منصور الشمري الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف – "اعتدال"
تمثّل عمليات التحريض إشكالاً على الدول؛ فكثيراً ما أفضت إلى خطابات متطرفة، ترتّبت عليها موجات من الانفعالات المدمرة، انتهت كما هو حال كل فكر سائب نحو مواجهات عنيفة، ورغم ما ترفعه هذه الخطابات من شعارات المُثل العليا الموعودة، لكن حقيقتها وتفاصيلها تفضح جوهرها اللاإنساني وطبيعتها العدمية؛ لذا فإنَّ الشحن الخطابي يُمثّل بوابة خطر مفتوحة على احتمالات عنف مُهددة لكل عوامل استقرار المجتمعات.
يركّزُ التطرّف عامة على إنشاء نسق خطابي مكتمل الأركان على المستويين المعجمي والبلاغي، غايته اختلاق ورسم ملامح عدو يُجسّد مفتاح كل آليات الاستعداء والاستقطاب المختلفة؛ فلا تطرّف بلا عدو صريح، ولا عداءَ بلا خطاب متطرّف يجعل المُتلقي مُستعداً لأجل تدمير هذا العدو المتخيّل، بحيث يُرسّخ في ذهن المتطرف أنَّه لا مجال لتحقيق المُثل العليا المتخيلة في نظره دون تصفية ذلك العدو!
وعليه، فإنَّ الخطر هو الدفع بالشعوب إلى مواجهة أعداء متخيلين، ومكمن هذا الخطر – الذي تم عليه بناء هذه المقالة – هو أن الدخول في المعركة الخطأ بالنسبة للشعوب هو تخلّف عن المستقبل، وهذا يُبدّد فرص أجيال عدّة ستجد لا محالة نفسها بعد عقود وهي تراوح مكانها، وتراقب حينئذٍ كيف تجاوزتها التحولات الكبرى للعالم، بينما كانت بلدانها مستغرقة في مواجهات لا علاقة لها بالتحديات الحقيقية التي يطرحها الواقع الفعلي لهذا العالم.
إنَّ مهمة تحديد العدو وتمييزه بدقة في خضم المواجهات، هي ما يميّز الاستراتيجيات الناجحة في إدارة الأزمات، وهي مهمة تُناط بها الدولة وحدها، ولا يصحُّ ولا يمكن أن ينافسها فيها أي طرف آخر، وبهذا فإنَّ العدو الوحيد هو ذلك الذي تحدّده الدولة على أساس نسق أمنها ومصالحها، وفي حياد عن الانفعالات، فليس من المُتاح لأحد أن يُدرك على وجه الدقة، وفي الوقت المناسب، الفواصل الحقيقية بين العدو والصديق في شأن المصالح والمفاسد للدولة إلا الدولة ذاتها؛ لأنَّ أمراً كهذا يحتاج إلى الكثير من بُعد النظر، ويتطلب مُمكِّنات لدى المؤسسات الوطنية المختصة لتوفير اللازم لأجل بناء قرارات وأحكام بمثل هذه المصيرية والأهمية.
وهنا نتذكّر أنَّ نهاية الحرب العالمية الثانية نتج منها تحوّل للعداء من بُعده الجغرافي إلى بُعد آيديولوجي عابر للقارات تولّد منه موجة من التطرّف الميليشياوي الذي ساد خمسينات القرن الماضي وستيناته، وانتقل تقليده إلى المنطقة العربية مع الحركات المسلحة سواء في صورة يسارية أو دينية؛ ممَّا دفع بالعالم إلى أن يمرَّ بلحظة تيه آيديولوجي من سماته النكوص نحو موجة من التطرّف القومي الذي حاول استحضار مبررات الصراعات القديمة، إلا أنَّه سرعان ما تمَّ التخلّص من زعماء هذه النزعة العنصرية أو العرقية، والانخراط في تبني الحلول السياسية لإدارة الصراعات، لكن هناك من أخلف الموعد التاريخي لهذه الحقبة باسم أعداء متخيلين؛ وهذا ما بدّد مقدرات بلدان كُثُر في حروب لا مبرّر لها سوى فقدان البوصلة الفكرية بفعل خطابات ارتكزت في تأثيرها إلى البُعد العاطفي للشعوب، فوُجِد من يختار المقاربات العسكرية حينما كان من الضروري عليه أن يغتنم فرص المنافسة الاقتصادية التي كانت في أوج احتدامها فترات ما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية النظام العالمي الجديد.
واليوم نحنُ نشاهد كيف تغيَّرت ملامحُ العالم وظهرت تحديات جديدة، في ظل تسارع مهددات بقاء الإنسان ذاته مثل ندرة الموارد الطبيعية وما قد تسببه من حالات انفلات أو استقطابات آيديولوجية أو صراعات عنف بأشكال ومبررات مختلفة، إلا أنَّ هناك من القادة والزعماء من أدرك حقيقة أن التفاعل مع هكذا تحدٍ هو العدو الفعلي الذي ينبغي الاشتباك مع مخاطره بكامل العزم والقوة، فتبنّى جهود التنمية المستدامة، والتوظيف الإبداعي للعناصر الطبيعية، حماية للحياة من أعدائها؛ فجعل المشروعات الكبرى القائمة على رؤية مستقبلية هي جوهر سياساته وأولويته القصوى، فهو يعلم مثلاً أن ندرة المياه والصراع عليها ستكون سبباً في موجة من الفوضى الكارثية، التي ولا بد أن تخلق مجالاً حيوياً لتنامي الأفكار المتطرفة، وانتشار الجماعات الإرهابية والإجرامية التي تجيد استغلال مثل هذه الأزمات الحيوية، ومن المعلوم أن التطرّف يتصيَّد ضحاياه من خلال اندلاع الأزمات المختلفة.
كما أنَّه يمكن أن نستحضر في هذا الصدد الانفجارات الديموغرافية المُحتملة في العقود المُقبلة، أو ما قد يُستحدث من طفرات فيروسية تكون سبباً في جوائح كارثية تستغلها جماعات وتنظيمات مثلما حدث مع حالة جائحة «كوفيد – 19»، وقد تابعنا كيف تنامى التطرف في ظل تلك الحالة الفريدة التي كان من الصعب استيعابها بشكل سريع، سواء على المستوى القانوني أو الأخلاقي؛ لذا فقد كان النجاح في إدارة تلك الأزمة عاملاً مؤثراً في إجهاض انتهازية المتطرفين، وإيقاف الضجيج الخطابي والانفعالي المصاحب لها.
إنَّ السياسة المتزنة الآن تتحدّد في مدى التركيز الجدّي على المعركة الحقيقية للإنسانية، والسعي إلى مواجهة كل خطاب يروّج باسم شعارات بالية لمعارك جانبية وأعداء متوهمين يجري توارثهم عبر العصور، في سبيل تبرير مشروعات عدمية تنبني في جوهرها على خطاب التدمير والمحو والانتقام، وهي كلها خطابات خطرة لا تُقيم شأناً لأرواح الإنسانية ولا لمستقبل البشرية.
ولحسن الحظ، فهناك جبهة وعي تبذل قصارى جهدها لإعادة الاعتبار لحرمة الحياة، واستقرار الأوطان، وتراهن على انخراط الإنسانية جمعاء في الاحتياط والتصرف حيال العدو البيئي الذي أصبح يقترب منّا يوماً بعد يوم، ويمكن أن نختصر قوام هذا المشروع في ثلاثِ لاءَاتٍ جديدة: واحدة تخُص الصراعات المتوارثة، وثانية تهُم إهمال العناصر الطبيعية الحيوية – الماء والهواء والتراب – وثالثة تقف بقوة وحزم مستدام في وجه كل آيديولوجية متطرفة تسترخص الحياة، وهذا يتضمَّن أن نقول نعم لثلاثة تأكيدات ضرورية: واحدة لمنطقة يسودها السلام والتعايش، وثانية للتنمية والاستدامة، وأخيرة للعناية بالحياة حمايةً لها من الأعداء.