عادة ما تُكابر التنظيمات المتطرفة في تحدٍ استفزازي، مقدمة نفسها كحركة إصلاحية تملك بيدها مفاتيح وحلول كل الصعوبات التي قد تواجهها البشرية جمعاء، وبحسب زعم تلك التنظيمات من المفترض أن تجد خلاصها من خلال معركة كارثية نهائية تعزل الأخيار عن الأشرار، وتُعمِل العنف في صفوف طرف منها كي تُنقذ الطرف الآخر من الضلال؛ الذي هو على حسب هذا المنطق كل من يُخالف توجهاتها التنظيمية، وهذا ما سيدخل البشرية في طريق الهداية، التي ليس لها إلا سبيل واحد في ضوء رؤية التنظيمات المتطرفة؛ وهو الانضمام الكامل إلى عصاباتها ذات الواجهات والوجوه المتعددة؛ التي تنطلق من مشاريع خيرية مزيفة، وتمر بالأحزاب الهجينة ذات الخطاب المزدوج والمخادع، وتنتهي بالتنظيمات السرية أو الحركات الإرهابية، التي تُشكل الذراع الدموي للتنظيمات المتطرفة، وتلعب دور الحركات الاجتماعية المسالمة، بينما هي تمنح للإرهاب مبررات وجوده، بل أن عناصره المقاتلة في الغالب ما تتربى أول الأمر في حاضنة التطرف التنظيمي قبل أن تنتقل إلى العمل الإرهابي.
هذا الوهم الإصلاحي الذي لا تتوقف التنظيمات المتطرفة عن الترويج له، يُمثل مشروعًا عبثيًا أصبحت الشواهد وافرة على بوارِ شأْنِه وخواء مقترحاته، خصوصًا بعد أن سمحت ظروف عابرة في حياة بعض الشعوب لهؤلاء المتطرفين بأن يمروا على محك الواقع، الذي كشف مدى ضحالة حقيقة شعاراتهم الرنانة التي سمحت لهم أحيانًا بأن يبيعوا الوهم باعتباره حقيقة، ويشعلوا الكوارث الاجتماعية باعتبارها حلولًا إنقاذية؛ إذ سرعان ما تبين من خلال محك الواقع، أن يد التطرف إذا مست أي قضية عمَّقت مشاكلها، وأعاقت إمكانية إيجاد الحلول لها؛ فالتطرف على مر التاريخ هو المعضلة وليس الحل، وهو المرض وليس الدواء، وذلك نظرًا لأنه يؤدي بالضرورة إلى فقدان من يقع في شباكه لبوصلته المكانية والزمانية والتواصلية التي يمكن أن نشير إليها في النقاط التالية:
- أولًا: لا يستطيع المتطرف أن يستوعب المتغيرات المكانية التي تنتج عن حركة التاريخ، ولا يمكن أن تدور دائما داخل نفس الحدود الجغرافية، ولا في إطار ذات المعالم والمسميات، فالخرائط الدولية هي نتيجة دينامية مستمرة، تترجم تغير التوازنات الدولية، وتعبر عن مآلات الأزمات الكبرى التي تمر بها الحضارات بحكم قانون التدافع الإنساني، ولهذا فإن القرون الطويلة من حياة البشرية، تؤدي في الغالب إلى تحولات حاسمة على مستوى المعطيات الجيوسياسية الكبرى، وهنا يكون على الجميع أن يُعيد تحديث تصوره للعالم، فذلك وحده يكفل القدرة على استيعاب المستجدات، والتمكن من النظر إلى العالم كما هو في واقعه الفعلي، الحال أن المتطرفين عبر العالم لا يقبلون بقانون التغيير، فيتصلبون ضمن تصور مكاني تجاوزه التاريخ، ولهذا تراهم يحافظون في مخيلاتهم على أماكن لم يعد لها وجود إلا في أدبيات خطابهم الوهمي؛ فيتحدثون عن حقب بائدة أصبحت جزءًا من أرشيف التاريخ القديم، ويرسمون حدودًا لا مقابل لها على خرائط العالم الراهن، وبهذا التصلب والهلوسات الجغرافية، يفقد المتطرف القدرة على التموضع السليم في العالم، ويقع في تِيه طوعي بفعل تصوراته الغريبة عن الواقع الفعلي؛ من هنا تُصبح مشاريع التطرف مفتقدة إلى المرتكز المكاني الواضح، لأن من لا يستطيع الانطلاق من إحداثيات دقيقة وفعلية للعالم، لا يُمكنه أن يصل إلى أي هدف ملموس، أو يخطط لأي مشاريع واقعية.
- ثانيًا: يَعلقُ المتطرفون في خيوط ذاكرة مليئة بالثقوب، حيث يقوم كل توجه متطرف على بناء سرديات يتداخل فيها التاريخ بالخيال، ويتم اختلاق الأزمات عبر حكاياتها، وإيقاظ الأحقاد انطلاقًا من أحداث لم يعد لها وجود، فعوض أن يتمثل المتطرف سياقه الفعلي، ويتعامل مع معطياته الراهنة، يفضل أن يخنق نفسه في سياق زماني فات بحكم قانون التاريخ، وأصبح ماضيًا بعيدًا ليس بالإمكان التفاعل معه مباشرة، إن فقدان البوصلة الزمانية هي ما يفسر تلك الغرابة لدى المتطرفين، حيث يهربون من الراهن إلى أوهام الحكايات المنسية، وينظرون إلى تحديات الناس الفعلية على ضوء أحداث خارج الزمان، ويُثيرون الضغائن والأحقاد باسم مظلوميات لا علاقة للواقع الحالي بتفاصيلها، وهذا ما يحكم على مشاريعهم الإصلاحية المزعومة بالتحول إلى سلسلة من الكوابيس التي تُخطئ موعدها مع التاريخ، وتعيش في متاهات السرديات الوهمية للماضي، مما يَحُول دون قدرتهم على تبين الحاضر أو استشراف المستقبل.
- ثالثًا: يفتقد المتطرف بفعل قصور إدراكه المكاني والزماني القدرة على التواصل السليم، فهو في الغالب يتحدث عن خيالات تتناقض مع الواقع، مما يؤدي به إلى الحَيْد عن موضوع التواصل الأصلي، وهذا ما يُفسر عجز المتطرفين عن الإجابة على أسئلة الواقع، ومحاولة اختلاق أسئلة وإشكالات غريبة عن السياق الاجتماعي، في استماتة مرضية لإيجاد الحلول لتحدياتها الوهمية، فتجد المتطرف يجر النقاش نحو مشاكل خيالية ترتبط بأماكن بائدة وأحداث منسية، متمسكًا بضحالة رأيه ومتعصبًا لضلال فكره، مما يوقعه في نوع من الاستحالة المستعصية للتواصل؛ فالمتطرف في حقيقته يعمل على محو كل من لا يشاركه انتماءه التنظيمي أو على الأقل تعاطفه وحماسه لمشاريعه العدمية من شبكته التواصلية، وهذه العلاقة التواصلية المتناقضة هي ما يجعله يعتقد أن تدميره للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للآخرين هو شكل من أشكال الإصلاح، ولقد رأينا كيف كانت التنظيمات الإرهابية تُشيع الرهبة والخوف في مناطق الصراع، وفي الوقت ذاته تفرض على الناس إظهار مشاعر الامتنان والفرح بما يعيشونه من مآسي تحت سطوتهم، وهو ما يؤكد حالة الفصام التواصلي لدى التنظيمات المتطرفة.
- ختامًا: إن كل ما سبق ذكره يُفسر سبب الفشل الحتمي للمشاريع العدمية للتطرف، فالمتطرفين يفتقدون القدرة على استيعاب المتغيرات المكانية والزمانية، وهذا ما يحكم على تواصلهم بالوقوع في ازدواجية خطيرة، تخلق منهم ظاهرة مرضية تُهدد حياة المجتمعات، وتزرع في طريقها الكثير من المعوقات والعقبات والمعضلات المدمرة لاستقرارها ونموها ورفاهيتها؛ فبينما لا تتوقف هذه التنظيمات على توصيف العالم بالضلال، فإنها في الواقع هي من يعيش حالة ضلال عميق فكريًا وبنيويًا، إذ كيف لمن لا يعرف مكانه الفعلي في العالم أن يُرشد الآخرين؟!، وكيف لمن لا يستطيع أن يستحضر راهنه أن يُخطط مشاريعهم؟!، وكيف لمن يعاديهم أن يتحدث باسمهم ويُدافع عن مصالحهم؟!.