اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. إضاءات
  3. ثقافة الأمل وسيلة لمواجهة التطرف

ثقافة الأمل وسيلة لمواجهة التطرف

من مسارب التطرف إلى العقول والأنفس إشاعة ثقافة اليأس بين الناس، وذلك على الخصوص بجعلهم يفقدون الثقة في إمكانية تجاوز الصعوبات التي تصادفهم، ومن خلال التشكيك في المشاريع المجتمعية الكبرى، وبالتالي الدعوة إلى عدم الانخراط فيها تحت مبررات واهية، تدور كلها في الغالب على نظريات المؤامرة، والمظلوميات التقليدية المرتبطة بوقائع تاريخية مزعومة، أو بتحولات اجتماعية لم يتوفق المتطرف بالتعايش معها، أو بمظلوميات اقتصادية، التي عوض أن تُقدَّم كحافز للعمل والمثابرة، تُستغل للتشكيك في الجدوى من بذل الجهد والمثابرة، وفي قتل مظاهر الأمل المختلفة داخل المجتمع.

وهكذا يمكن القول أن الأمل هو عدو التطرف الأساس، فهو يتناسب عكسيًا مع درجة شيوعه ورسوخه داخل المجتمعات؛ إذ بقدر ما يضمُر في الأنفس يتضخم الميل إلى تبني الأفكار المتطرفة، ولكن بقدر ما يُزهر في الصدور، إلا وتصبح فرص تنامي الأفكار المتطرفة ضعيفة بل وغير واردة بالنسبة لأفئدةٍ مُشْبعَةٍ بالآمال العريضة، وبالإيمان بإمكانية تحقيقها على أرض الواقع بالمزيد من العمل ومن روح الابتكار.

انطلاقا مما سبق، يصبح التطرف في حقيقته هو تلك الحرب الضروس القائمة منذ آلاف السنين، بين اليأس و الأمل، وبين العمل والتخاذل، وبين البناء والهدم، ولقد مرت عبر التاريخ مذاهب سوداوية تزرع المشاعر السلبية في النفوس، فتوفقت في كبح دينامية البناء،  وفي خلق نكوص حضاري، انتهى في حالات كثيرة إلى حروب داخلية دامية، جعلت الشعوب تغرق في مآسي تراجيدية، زادت في ترسيخ المشاعر السلبية لدى الناس.

 وأي قارئ للتاريخ يعرف كيف أن الأطروحات المتطرفة تصبح ذات جاذبية كبرى في حالات الأزمات الكبرى، وانهيارات الأمم حين يتم إضعافها بالصراعات الداخلية، على خلاف ذلك لا يُنقذ هذه الأخيرة إلا وجود أشخاص قادرين على قدح شعلة الأمل في النفوس، وجمع الكلمة على مشروع بناء كبير، ينخرط فيه الجميع بفعل إيمان قوي وأمل صلب في إمكانية البناء، ودعم إستراتيجيات الحياة ضد أعدائها المتمثلين في الموت/ والوهن/ واليأس، وهذا ما يدفع الشعوب  إلى إخراج كل ما في مكنوناتها من قدرات الإبداع والعطاء، التي تشجع بدورها المشاعر الإيجابية من قبيل التسامح والقبول بالاختلاف، والتنوع الثقافي، وهذا ما يؤكده ارتباط حقب الازدهار عبر التاريخ  بانتشار الانفتاح الحضاري سواء على المستوى الداخلي، أو في إطار العلاقة مع باقي الحضارات الأخرى.

لهذا من المهم أن نراهن بشكل كبير على زرع الأمل في النفوس، إذا ما أردنا أن نربح معركتنا ضد التطرف، الذي لا يتوقف على الترويج لتمجيد الموت كوسيلة وحيدة لبلوغ السعادة الحقيقية، رغم أن الأديان تعلمنا أن الحياة هي أكبر نعمة أعطانا إياها سبحانه وتعالى، كي نرقى بها أعلى ما نستطيع أخلاقًا وعلمًا وعملًا وإعمارًا للأرض، أما تبديد الحياة بإهلاكها نتيجة للقناعات المميتة، فذلك هو الضلال البعيد. ولكي نكرس ثقافة الأمل ينبغي التركيز على ما يلي:

▪ أولًا: أن نرسخ منذ الطفولة لدى النشء قدرات التمتع بالحياة، لأن الطفل الذي تُسرق نضارة صباه بطرق عنيفة في التعليم والتربية، تتبلد أحاسيسه حيال الجمال والفن، ويمتلئ بالخوف والحذر من كل جديد؛ بقدر ما يعلمه الضغط العنيف بأن ينظر إلى الأشياء من منظورات  ضيقة ومحدودة لا يستطيع الانفكاك عنها خشية العقاب، هذا الخوف من الابتكار والتطوير يمنعه من النظرة الإيجابية للحياة، ويجعله طريدة سهلة للمتطرفين الذين يضخمون خوفه من الانفتاح على الحياة، إلى درجة تحوله نحو تقديس الموت الذي يحاط حسب خطابات التطرف بهالة من التفخيم والبطولة.

▪ثانيًا: أن نجعل العمل أداة حقيقية للبناء، وذلك بدفع المجتمع إلى الانخراط الجماعي في مشاريع عملاقة تجعله يرى الأبعاد الحضارية لجهوده، وذلك من جهة بمنع تحول المهام العملية إلى مجرد تأديةٍ آليةٍ روتينية مفتقدة للمعنى والشغف، ثم من جهة أخرى التوقف عن التواكل وانتظار الانتصارات الجاهزة، وهذا ما يحول الجهود المشتركة وما يصاحبها من عنت ومكابدة إلى فعل مقاوم لعوامل الإحباط، وهذا الاستغراق الجماعي بتحقيق التطلعات الحضارية بما تحمله من تحديات، تجعل العقول محصنة ضد خطاب التسفيه والتيئيس الذي يبرع فيه المتطرفون، لأن الانشغال بالعمل وبالأمل وبالنجاح يسد كل المنافذ التي يمكن أن يتسرب من خلالها اليأس إلى الأنفس.

▪ثالثًا: أن نُقوي الإيمان بالمستقبل من خلال تبني القيم التقدمية التي تراهن على أن تجعل مسار الحياة عبارة عن نماء مستمر نحو الأفضل، بفعل العمل والجهد المستمرين، وهذا ما تلخصه كلمة التنمية التي تعتبر مفتاح ثقافة الأمل، لأن الارتباط بمشاريع غايتها ليس مجرد الاشتباكات السطحية والانفعالية مع الواقع، وإنما تنمية الموارد والكفاءات بشكل مضطرد يجعل كل غدٍ أفضل حال من  أي أمس، لهو  كفيل وحده أن يَعقِد الهمم بالمستقبل الزاهر عوض الانخراط في بكائيات الماضي الذي لم يعد له وجود، وهذا يكفي لكي يحصننا من خطاب التطرف الغارق في الماضويات الكئيبة، التي تعطل التنمية سواء في الأنفس أو على أرض الواقع.

▪ختامًا: إن الأمل وفق هكذا معنى ليس مجرد شعور حالم، بل طريقة خاصة في رؤية الأشياء، والتي لا يمكنها أن تتجذر داخل وجدان الناس، إلا إذا ما ارتبطت بقيم أخرى مثل العمل والانفتاح والتنمية، وهي قيم كفيلة بأن تجعل الغيمة السوداء للتطرف تنقشع أمام إشراق شمس الأمل.