اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. إضاءات
  3. انفعالات التطرف أخطر من أفكاره

انفعالات التطرف أخطر من أفكاره

رغم ما يبدو من اختلاف في الإيديولوجيات المتطرفة إلا أنه توجد بنية ذهنية أساسية يغلب عليها الانفعال والاندفاع، يمكن رصدها لدى جميع المتطرفين دون استثناء، فمثلًا نجد نفس الهوية النفسية والمزاج الفكري المتمحوّر حول نفس الانفعالات خلف كل التنويعات البلاغية والخطابية واللغوية التي يرددها المتطرفون عبر العالم، والتي تقول في الواقع نفس الشيء بطرق متباينة شكلًا متطابقة جوهرًا ومنطقًا وانفعالًا.

لهذا يمكننا القول بأن الانسياق إلى الاشتباك مع ما تروج له الجماعات المتطرفة في شبكات التواصل الاجتماعي من أفكار هو وقوع في لعبتها الخطرة، لأن السجال معها يغذي أكثر كتلة الانفعالات التي تحرص هذه الجماعات على أن تبثها بين أتباعها والمتعاطفين معها، والقائمة في الغالب على شعارات العنف والكراهية والحقد والتحريض، وهي كلها أحاسيس تفرزها السجالات المباشرة مع هذه الجماعات، يضاف إلى ذلك الانزلاق والانجرار دون وعي إلى محاكاة الخطابات الحماسية للمتطرفين، والتي تُعتبر أحد أهم روافد هذه الجماعات في تمرير مقولاتها، لأن هذه المحاكاة والمزايدة تمنح التطرف فرصة أكبر لاحتداد والتنامي، وفي كلتا الحالتين سواء عبر الاشتباك السجالي أو المحاكاة باعتبارها عملية تصدي مضادة، تكون قدرتنا في كبح التطرف بأنواعه محدودة، وذلك بكل بساطة لأن العنصر الانفعالي للمتطرفين لا يتأثر بالسجال، بل ربما يزداد حدة واحتدامًا، وفي أقل الأحوال ستوجد حالة استدامة للمحتوى المتطرف لفترة طويلة نتيجة لعمليات التصدي القائمة على فهم غير دقيق لحالة المتطرفين.

إن الكراهية والحقد مثلًا لا تُنقض وتُفنّد من خلال الفكر، فهي انفعال أعمى يجعل العقل مُنغلقًا أمام كل محاولات الحوار البناء، وكذلك العنصرية التي تجعل المشاعر الإنسانية في حالة تَبَرُّمٍ حيال كل خطاب يدعو إلى الاتزان والاعتدال، لأن هاتين الصفتين لا تتناسبان مع طبيعة المتطرف المندفعة التي تبحث عن تغذيتها في مساحات السجال والجدل والشتائم ..إلخ، وفي المزايدة على الغضب والكراهية، التي كلما احتدت، إلا وشعر المتطرف بنوع من الإشباع لرغبته المرضية في العنف. ولهذا سيكون من غير المجدي تمامًا التعويل على الحوار الهادئ لتغيير القناعات المتصلبة والمتشنجة للمتطرفين، لأن الأفكار ليست هي منبت تطرفهم، وإنما الانفعالات المشوهة التي تملك نفس الملامح وراء مختلف الأقنعة الإيديولوجية للتطرف؛ إن الغضب والكراهية والحقد هي  نفسها الانفعالات التي تعوي في صدور حامليها على نفس المنحى، حتى وإن اختلفت اللغات والكلمات والعبارات.

ويتضح هذا البُعد الانفعالي لظاهرة التطرف من كون الاستراتيجية الاستقطابية التي يمر منها المتطرفون ترتبط في الغالب باستغلال مشاعر مشوهة ومريضة لدى الأفراد المعرضين للوقوع في فخ التطرف في شبكات التواصل الاجتماعي بفعل هشاشتهم، أكثر من ارتباطها بالأفكار والإيديولوجيات، التي تأتي لاحقة عن تشكّل الحساسية الانفعالية المتطرفة لدى الفرد، بل إن عملية الأدلجة أصبحت شبه غائبة في حالة المتطرف الشبكي، الذي أضحى يتشرّب الانفعالات مباشرة دونما أي تكوين إيديولوجي أو عقدي. وتتشكل هذه في المراحل التالية:

  • أولًا: مرحلة استثارة مشاعر عدم الرضا والغضب تجاه المجتمعات، من خلال الترويج لمادة تضليلية ملفقة تحاول أن تُفقد الفرد انتماءاته الطبيعية إلى أسرته ومجتمعه، وبهذا فهي  تسحب منه دون أن يشعر بذلك مشاعره الطبيعية، لكي تحل بدلًا عنها تلك الانفعالات العدوانية تجاه محيطه، وهي في الغالب الإرهاصات الأولى للميولات المتطرفة، التي تصير مؤهلة تدريجيًا لكي تصبح أكثر جذرية وعنفًا. لكن في كل الحالات إن مدخل الجماعات لاستقطاب الأفراد يقوم على استغلال مشاعرهم  السلبية، عبر تشجيعها وتضخيمها، وجعلها تتطور إلى درجة أن توقعهم في حالة من الغربة والغرابة داخل مجتمعهم، ولا تتوقف الآلة الاستقطابية للجماعات عن دعم مثل هذه المشاعر السلبية بالحكايات المختلقة، وبالأسرار المزعومة، وبالتأويلات الفاسدة، كما أنها تحرص على تغير هذه المادة حسب تبدل السياقات والمقامات، لأن الأساسي بالنسبة لهذه الجماعات هو قبل كل شيء تكريس وتعميق المشاعر المتطرفة، أما المبررات فهي مجرد وسيلة وظيفية ليس غير، وحين تنجح في مهمتها فهي تتمكن من تشكيل فرد يتميز بحالة من الهوس الانفعالي في تقاسم مشاعره وانفعالاته مع الآخرين تحت مسمى الواجب الدعوي، في محاولة لجذب عناصر جديدة  تستدرجها عدوى الأنفعالات، التي تتحوّل إلى وباء نفسي حقيقي داخل افتراضية تفاعلية كبرى عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تعد قاعدة أساسية للترويج، فتنمي نفس الأحاسيس العدائية باعتماد مختلف الوسائل الرقمية.
  • ثانيًا: مرحلة السقوط في تحويل العداء إلى اعتداء،؛ ذلك لأن الأحاسيس لا تبني لدى الفرد قناعة مذهبية بل تخلق لديه تشبعًا إيديولوجيا، يدفع به إلى الانخراط في الديناميات الصراعية للجماعة المتطرفة، التي تتجاوز في نهاية المطاف الخلافات الفكرية، التي سبق الإشارة بأنها مجرد قناع للانفعالات القاتلة التي تستمر في التضخم والتنامي، إلى أن تصبح سببًا كافيًا للجوء إلى العنف، الذي يُنضج الانفعالات كي تتحوّل إلى أفعال عنف، وهنا يصبح الولاء إلى الجماعة بديلًا عن كل الولاءات الأخرى لدى الفرد، حيث يمكن القول أن أي فرد يقوم بعمل عنيف فهو ينظر إلى نفسه كمحارب أو صاحب مبدأ أو قضية في معركة مقدسة تتواجه فيها جماعته ضد العالم، والتي يصبح مستعدًا للتضحية من أجلها، بفعل منطق الهلوسات التي تترسخ لديه عبر تشجيع مشاعره السلبية، والأخطر من ذلك يصبح هذا التشبع الإيديولوجي مبررًا كافيًا لإضفاء طابع القداسة على فعل الاعتداء على الآخرين.
  • ثالثًا: مرحلة القطيعة الجذرية مع المنظومة القيمية والقانونية للمجتمعات، إذ يمكن القول أن مسار المتطرفين ومنتهاهم هو واحد بعيدًا عن كل التفاصيل الإيديولوجية، فهو يبدأ بانفعال مريض يغذَّى بشعارات حماسية، ثم ينتهي إلى انتماء تنظيمي ضيق، ليصل في الأخير إلى اختزال مشروع حياة المتطرف في الدفاع عن الجماعة أو العصابة، والتي تصبح بالنسبة إليه بديلًا عن الأسرة والمجتمع والوطن والعالم، لذلك لا يمكن مُطلقًا أن يكون هناك متطرف مستقل بنفسه، وهذا هو الدرك الأخير في رحلة الانحدار لدى المتطرفين، لذلك حينما يرتكبون في هذه المرحلة جرائمهم المقيتة، فهم لا يرونها حسب المنطق السليم المشترك بين الناس كافة، بل يقرأونها عبر منطق مرضي يصورها لهم كأعمال بطولية ستكون سببًا في خلاصهم وخلاص العالم من شر لا يرونه إلا هم فقط.
  • رابعًا: ومن الواضح أن كل مراحل التحول للمتطرفين تدور في فلك الانفعالات، أما الأفكار بدلالتها المعرفية الخالصة والمباشرة فتبدو شبه غائبة لدى أغلبهم، لأن الذي يؤثر في مسارهم هو التفاعل النفسي أكثر منه التفاعل الفكري، الذي يتحقق عبر حالة العزلة النفسية والعدوى الانفعالية التي يتعرض لها بفعل بروباغوندا التنظيمات والعصابات، التي أصبحت تعتمد على المرئيات والمسموعات أكثر من اعتمادها على المقروءات والتصنيفات، ويترسخ هذا الانفصال وهذه الانفعالية أكثر بالثورات التي تحدث في العصر الرقمي، الذي منح هذه التنظيمات وغيرها إمكانيات هائلة لتشكيل جيوب افتراضية مظلمة، تنتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي في شكل عناكب رقمية، تنفث الضغائن وتشجع على الكراهية والعنف، مستعملة كل ما استجد في مجال الأدوات الرقمية، وهذا ما سمح بتشكل كتل بيانات رقمية وبائية متشبعة بالانفعالات السامة التي لا تتوقف عن خلق مفعولات التطرف الخطرة.
  • ختامًا: يمكن القول إننا أضحينا نعيش عصر تطرف ما بعد الإيديولوجيا، أو على أقل تقدير إن التطرف الجديد أصبح نتاجًا للعدوى الرقمية الحاملة لحزمة من الانفعالات المتطرفة التي يتناقلها متابعو شبكات التواصل الاجتماعي أحيانًا دون وعي منهم، ودون أن يكونوا فعلًا أتباعًا لجماعات أو عصابات تنظيمية محددة، وذلك من قبيل الكراهية والعنصرية والاستخفاف بالقوانين وغير ذلك من مظاهر النزوع نحو الانفعالات العدائية والتسيّب المدني والحضاري، ولهذا يعتبر العمل على تحجيم هذه الكتلة الرقمية الخطرة، ومحاصرتها، ومنع تداولها أولية حيوية في مسار مكافحتنا للتطرف، فقد أضحت الصور، والفيديوهات القصيرة، والتغريدات، والتدوينات أكثر خطرًا من الكتب التقليدية للتطرف، وصارت الكيمياء الخفيّة للانفعالات المتطرفة أكثر خطرًا وتأثيرًا من إيديولوجيات التطرف الصريحة.