يتعمد الخطاب المتطرف إفراغ المفردات من مضامينها ودلالاتها، ليسهل عليه إعادة بناء معانيها بما يتوافق وأهدافه، وهي إستراتيجية قائمة على إفقار القاموس اللغوي وتجريده من أهم خصائصه في إثراء المضامين، التي تمنح المجتمعات قدرات أكبر على التواصل والتجديد والتعايش والتفاعل مع العالم من حولها بشكل إيجابي، تتولد عنه نتاجات فكرية قادرة على إعادة تشكيل الصور اللغوية للمفاهيم والاصطلاحات في كل لغة، والتي تسهم بشكل فعال في الدفع نحو إحداث مزيد من التقدم والتطوير، بما يتوافق ومتطلبات الزمان والمكان.
هنا تتبدى القيمة الحقيقية للكلمات ذات الدلالات الواضحة، قبل أن تخضع لتدخلات وتعديلات وتأويلات ولي لرؤوس معانيها من قبل الإيديولوجيات المتطرفة التي تدفع دائمًا نحو تشويهها وتحييدها عن أصلها الدلالي الأول، وفي ذلك:
أولًا: إذا ما حاولنا أن نفهم ما يدور في عقول تتبنى مثل هكذا توجه، وتدفع باتجاه إيجاد قاموس مخالف لحقيقة المعاني والمفردات بغرض تشويه الإرث اللغوي الحقيقي للمجتمعات، سنجد أن مشكلة مثل هؤلاء هو معجمهم اللغوي المتكلس والمنفصل عن التاريخ والغريب عن واقعه، والذي يختلق المعاني المغلوطة للكلمات التي أُفقدت دلالاتها الأصيلة، لتتحول بعد ذلك إلى عائق يفقد الفرد قدرته على الوعي والاستيعاب و التفكير.
ثانيًا: إن التأويل الخاطئ للكلمات يوفر للإيديولوجيات المتطرفة مساحات مرنة من التحرك وسط ضبابية المعاني التي تتعمد نشرها، ما قد يساعدها في التسلل والتمدد، خصوصًا داخل المجتمعات التي تعاني ضعفًا أو اهتزازًا في أصولها اللغوية والتراثية والفكرية، وهو ما يحجب فرص التلاقح الحضاري فيما بينها وبين نظيراتها، بل ويصيب تلك المجتمعات بما يشبه الشلل في توقفها عن مجاراة التطور الحاصل في محيطها، إلى أن تنفصل تمامًا عن ركب الحضارة الإنسانية، فتنكمش على نفسها حد الضمور نحو البدائية.
ثالثًا: يتعمد التطرف في هكذا حالة تجريد المفردات عن معانيها الحقيقية، من أجل التشويش على واقع الناس بما يجعلهم يعتقدون وهمًا بصواب خطاباته، وهي مرحلة من أعنف حالات الانتهاك اللغوي التي تتسبّب في إحداث ارتباك فكري، خصوصًا لدى صغار السن الذين تدفع التنظيمات المتطرفة نحو إغراقهم في مثل هذه الحالات، ليسهل بعد ذلك إحكام السيطرة عليهم، والتسليم المطلق لكل أفكار التنظيم وإيديولوجياته، وإخضاعهم قسرًا إلى تزوير البناء المعرفي لديهم، ومن ثم توجيههم كأدوات غير قابلة للنقاش أو التفكير نحو فعل ما يريده كل تنظيم ويتوافق مع أهدافه، وفي سبيل ذلك يقدمون قراءات مضللة للكلمات، تتوافق مع حالهم المباشر، في جريمة إنسانية لا تقل خطرًا عن جريمة الإرهاب.
رابعًا: إن دلالة الكلمة هي وليدة سياقها، لذا فإن الذي يستطيع إدراك معانيها الحقيقية هو من يعمل على تبيئتها في مقامه الزماني والمكاني الخاص، وبهذا يجعلها كلمة حية ومتفاعلة ومتطورة، عوض أن يجمّدها بإفراغها التام من دينامية الحياة بها، أو يحاول وهو يستعملها أن يتحدث بكلمات ميتة عن واقع حي، فإذا به يُغيّب ماضيه ولا يدرك حقيقة حاضره، وهو ما يجعل المتطرف يعاني حالة من الفصام والصراع الداخلي، بين ما تم تلقينه به من كلمات بلا معانٍ حقيقية، وبين صواب تلك الكلمات وما تتضمنه من تفسيرات واضحة للمفاهيم والمصطلحات، لذا فإن الحفاظ على اللغة وصونها من العبث أمام الأجيال الحالية والمقبلة، يسهم في ثبات المجتمعات، بل ويحافظ على مزيد من قوة وتماسك وحصانة مكوناتها كافة.