ليس للكلمات دلالة ثابتة، فهي رهينة بالخلفية المعرفية والمذهبية الفكرية لمستعمليها، لذلك قد تعني الكلمة الواحدة ما لا حد له من المعاني المتباعدة، بل والمتناقضة، ومن هنا تأتي ضرورة الانتباه لهذه الحيثيات، فكلما خرج دُعاة الفكر المتطرف بشعاراتهم الرنّانة، التي رغم ظاهرها الفضائلي، فهي تُخفي الكثير من المفارقات، وضروبًا من المشاعر التي لا تليق إلا بمن لم يعد يقيم للأخلاق وزنًا، ولا للحرمات قداسةً وتهيبًا، وفي ذلك نقاط عدة من بينها:
- أولًا، يُظهر خطاب المظلومية -المزعوم- الذي يبرع فيه دُعاة التطرف، المبالغات في تضخيم أي حدث أو سلوك أو فعل، فتراهم يتصارخون ويستعدون الناس ضد ما يرونه مُصابًا جللًا، مستعملين في ذلك كل طرائق التضليل والاختلاق والافتعال، فهم لديهم القناعة بأنهم التجسيد الكامل للخير مقابل الشر، والصواب مقابل الخطأ، ومن هنا يظهر حجم خطرهم.
- ثانيًا، علينا أن نستحضر بأن ادعاء الفضيلة المُطلقة لا يصح، وهذا هو ديدن الجماعات المتطرفة، لأنها حينما تنطلق من كون الحقيقة موقوفة عليها، وأن الفضيلة لا توجد إلا بين أتباعها، فهي تعبّر عن الأنانية العمياء والمظلمة التي تُعتبر عائقًا أمام إدراك معنى التعايش، ولذلك فمهما رددت جماعات من هذا القبيل كلمة الفضيلة في خطابها، فهي تظل منزوعة القدرة على استيعاب دلالتها.
- ثالثًا، ولأن الفضيلة هي مفهوم عام، فلا يمكن أن تُسلب لمجرد رؤى خاصة بأصاحبها، وفي هذه الحالة لا يمكن التعويل على تعريف الأفراد للفضيلة خصوصًا اليوم في ظل الانفتاح الهائل، لأن كل شخص مهما بذل من جهد، يمكنه أن يقع تحت تأثير الإيحاءات، ويضعف أمام بعض المواقف ذات الشحنات العاطفية، لهذا فإن الفضيلة تتميز بكونها مرتبطة بمؤسسات لا تمثل هذا الطرف أو ذاك، بل إنها تعبّر عن صوت القانون الذي لا يترك مجالًا للانفعالات والشعارات الاستعدائية، أو للمظلوميات المتلاعبة، في مقابل هذا يتخيل المتطرف في حماسته الجاهلية، أن مجرد الإدانة الغاضبة لشخصٍ ما، أو مجتمع بعينه، تكفي لأن تشكّل حكمًا ينتظر فقط الجرأة أو الفرصة لأجل تنفيذه، لذا فإن فقد الجماعات المتطرفة هذا الحس هو ما يجعلها تتصرف كعصابة متوحشة، موغلة بألفاظ الخداع والمكر رغم افتعالها خطاب الحق والفضيلة المزعومة.
- رابعًا، إن الفضيلة قداستها في كونها حق عام، وليس للأشخاص سلبها من خلال اطلاق الأحكام أو التلميح بذلك، وهذا ما نراه في خطاب التطرف الذي لا يتوقف على شخصنة القضايا، وشيطنة الآخر، والحديث عن الفضيلة على أساس الشبهات والحكايات والخيالات، فيوزع التهم ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يحسب لما يقول أي حساب آخر، غير متعة النكاية والحقد والحسابات الشخصية والتنظيمية، بينما هو مطلق لنفسه الحرية الكاملة ليخوض في أعراض الناس وذممهم. إن هذا المنطق السهل والضحل الذي يتبناه المتطرفون على شبكات التواصل الاجتماعي، هو ما يجعل مطلب الفضيلة صعب الاستيعاب في أفقهم الفكري والنفسي، لأنهم يعتقدون أن الانتقام هو الغاية.
- ختامًا، لكي نستوعب معنى ودلالة الفضيلة فعلينا أن نعمل جميعًا للخروج من المدافن الإيديولوجية، والتخلص من الأنانية، التي تجعلنا نعتقد أن الشيء إذا لم يرقنا ولم يناسب ذوقنا، فعلينا أن ندعوه ظلمًا ومنكرًا وفسادًا، ونعتبر تغييره مطلبًا. إن الفضيلة لا تفهم إلا من خلال الانفتاح على الآخر والخروج من بؤس التضخم الذاتي، وفهم المتغيرات الحياتية، واحترام القوانين. وما نراه من رفع لشعارات الفضيلة، وسلبها من مجتمعات أو أفراد، ما هو إلا دعوة وتحريض للخروج عن المؤسسات وضوابطها، وخطاب حقد وضغينة وعداء.