اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. إضاءات
  3. العلوم الطبيعية ترياقًا للتطرف

العلوم الطبيعية ترياقًا للتطرف

قبل أن يكون التطرف انحرافًا سلوكيًا، وفشلًا حضاريًا في العيش على منوال يليق بالمواطن الصالح والإنسان السوي، فهو فساد في الفكر، واعوجاج في الفهم، وقصور في المعرفة، لهذا يحتاج علاج التطرف أن يركز على هذا الجذر الخبيث المتمثل في مجموع الأفكار التي تنخر في العقول، فتحيلها إلى أجسام يسكنها المرض ويعلوها صدأ الجهل الذي يتلون زيفًا بألوان المعرفة والعلم. من هنا إن تشجيع العلوم الطبيعية، وإشاعتها بين الناس تعليمًا وتبسيطًا وترويجًا، لابد وأن يمثل لقاحًا  فكريًا قويًا يحصن الناس من الانجرار وراء أوهام الخطاب المتطرف، وذلك لكون هذه العلوم هي تمرين مستمر لعقولنا على أن تلزم نفسها بضوابط المنهج الصارم للتفكير والفهم والنظر، وكذلك تحييد عواطفنا وانفعالاتنا وخيالاتنا التي تحُول في الغالب دون أن نتمكن من رؤية الأشياء كما هي، فنقع فريسة الهلوسات الخطابية التي يتقن المتطرفون إحاطتها بهالة من العلمية الزائفة، ومن أهم ما يمكن أن نحصله من كفاءات ونحن ننشر الرؤى العلمية داخل المجتمعات:
  • أولًا: تغليب العقل على الخيال، إذ في الغالب ما تبرع التنظيمات المتطرفة في تصوير الأحداث والوقائع التاريخية والسياسية في ظل حكايات تنهل كل مقوماتها من خيال المتطرفين، حيث لا تجد حرجًا في تفسير قضايا سياسية حدثت لأسباب واقعية، من خلال خوارق يدعمونها بالشهود العدول وبالقسم الغليظ، وما هي في الواقع إلا توهيم مريض يبث في عقول الناس الوهن الفكري، ويدفعهم للوقوع في إغراء المعرفة السهلة، في المقابل إن للعلوم الطبيعية قدرة هائلة على تبديد مثل هذه القصص الموهمة، من خلال إخضاع الأنظمة التفسيرية إلى منهج دقيق في التحليل والتحقق، وهذا ما يصعب مهمة المتطرفين؛ لأن قدرة العلماء على إيجاد الأدلة وتمييزها عن الأوهام، يدرب العقول على الميل للاستدلال الصلب، عوض التخيّلات الوهمية، وبقدر ما تنمو قدراتنا العقلية، بقدر ما نخرج من حالة القصور الفكري، الذي إذا ما استمر معنا بعد سنواتنا الأولى في الحياة، سيتحول إلى إعاقة معيبة، تعرضنا لخطر الاستكانة إلى خطابات قاتلة رغم كل الحكايات البطولية “الوهمية” التي تتخفى خلفها.
  • ثانيًا: إن العلوم الطبيعية حينما تعلمنا منهج الملاحظة العلمية، القائم على وصف الظواهر بدقة وموضوعية، فإن ذلك يمثل درسًا مهمًا في الحذر واليقظة، وهما صفتان يصعبان كثيرًا مهمة الخطاب المتطرف في استقطاب ضحاياه، لأن المتطرف هو ضحية الثقة العمياء في مكر دعاة التطرف، ومن هنا فإن العقول التي تنشأ على صرامة الملاحظة العلمية، من الصعب أن تقع في التسليم السهل، أو قبول كل ما يقدم لها على أنه حقيقة منزهة، نظرًا لتملكها منهجًا صارمًا في التوصيف والتحديد والتعريف، فيأخذ العقل وقته في إحاطة الظاهرة من كل جانب، ويتجنب الوقوع في النظرة العمومية المتسرعة، وهذا ما لا يقبله المتطرفون الذين يلفقون خطابًا يخلط بين عناصر لا رابط بينها.
  • ثالثًا: بالإضافة إلى تغليب العقل، والملاحظة الصارمة، فإن العلم الحق يلزمنا بأن لا نضع كفرضيات تفسيرية إلا ما يمكن التحقق منه على أرض الواقع، ولهذا فإن المقاربات التي تعتمد تفسيرات خارقة في أمور لا علاقة لها بالمعجزات التي خص الله سبحانه بها أنبياءه، تصبح غير ذات معنى، خصوصًا وأن القرآن الكريم دعانا إلى فهم الأسباب، والنظر العقلي إلى ما يعرض لنا من أحداث، وهذا من أعز ما يطلب في سياقٍ تضخم فيه الأخبار عن الاستنتاجات الكاذبة، والفرضيات الخيالية التي يحاول المتطرفون جعلها جزءًا من الدين، وما هي في الواقع إلا من بنات تأويلات عقولهم المغلقة، لذا فإن واقعية ومعقولية الأنظمة التفسيرية العلمية، هو ما سيضع هلوسات المتطرفين خارج مجال الخطاب الجِدِّي، إذ يكفي أن نقدم التفسيرات الدقيقة والصارمة، لكي تتبدد بفعل نور العقل وقوة العلم.
  • رابعًا: كما أن العلوم نظرًا لأنها تقدم فرضيات تفسيرية، فإن باب التحقق منها مفتوحًا على الدوام، وبالتالي فليس هناك أي معرفة علمية بمنأى عن النقد والمراجعة، لأن الخطأ في العلم ليس خطيئة، مما يعني أن اكتشافه لا يكون مدعاة للخصام والعداء، بل قد تجد العالم نفسه وهو يراجع أطروحاته الشخصية، بحيث يجوز أن يعلن خطأ ما قدر من تفسيرات سابقة، وينشر أوراقا جديدة يعلن من خلالها فهمه الجديد، ولا يُعد هذا منقصة في مجال العلم، بل هو التجسيد الفعلي لروح العقل العلمي، الذي لا يسجن نفسه أبدًا في خطاب مغلق وميت، ولهذا فإن تغليب العلم داخل أوساط النقاشات العلمية، سيجعلها تنتقل من السجال والخصام والاتهام، إلى الحوار التعاوني المثمر، الذي لا يضع الناس في مواجهة شبه حربية، بل ينظمهم على شكل جماعة حوارية يعين بعضها بعضا من أجل  تجويد المعارف وتدقيق الحقائق، وبهذا يصبح التطور قانون هذه المجتمعات، عوض انغراسها في مستنقع المواجهات الدائمة التي تمنع العقول من تطوير معارفها بقدر انشغالها  بكيل الاتهامات لخصومها.
  • ختامًا، إن التركيز على دعم مكانة العلوم في مناهجنا التربوية، يمثل لوحده خطوة مهمة في سبيل محاصرة الفكر المتطرف، ومنعه من إحداث مفعوله السلبي في عقول الناس، لكن لا يكفي أن نتعاطى العلوم في مدارسنا ومجالسنا كمجرد نتائج نستغلها في تحقيق مصالحنا الخاصة، لان أمرًا كهذا يُجيده المتطرفون أنفسهم، بل نقصد بذلك ضرورة تعزيز الفكر العلمي وفق مناهجه وأساليبه المنضبطة، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تعزيز قيمة التفكير النقدي للوصول إلى الاستدلالات العلمية العميقة، وذلك كفيلًا بأن يظهر قزمية خطاب المتطرفين وتفاهة أطروحاتهم.