لا تستقيم العلاقة بين الفكر المتطرف والثقافات والفنون، حيث يراهما المتطرف عدوًا رئيسًا له ولإيديولوجياته التي يسعى إلى فرضها على المجتمع، وذلك من جانب كونهما مهددان لوجوده ومحاولاته في استلاب العقل وكل نتاجاته الإبداعية والحضارية اللتان لا تفقدان مع مرور الوقت قيمتهما، بل على العكس تزدادا وضاءة وجمالية كلما استطاعا عبور الجغرافيات نحو تشكيل تراثًا إنسانيًا عامًا يتحول إلى مشتركًا عالميًا ذات اختلاجات تبرز القيمة الجمالية للفكر الإنساني، ولعل هذا البعد التواصلي في الثقافة والفن هو من ضمن ما يستفز ضائقة المتطرفين من هذا المجال، لأن تحقيق هذا التواصل الإنساني هو في الواقع إبطال للإيديولوجية المتطرفة القائمة على الإقصاء وتشجيع مشاعر الكراهية، وهذا بالضبط ما يسعى الفكر الفني الرفيع تحديدًا إلى تجاوزه والحيلولة دون انتشاره، مما يجعل الفن والتطرف في حالة تناف مبدئي ما يدفع بالمتطرف إلى معاداته بشكل تلقائي، و مرد ذلك إجمالًا إلى العديد من الأسباب من بينها:
- أولًا: يحذر المتطرف من الفن لأنه يعلي من قيمة الجمال وبالتالي فهو من حيث المبدأ دعوة للحياة، في مقابل ذلك يُدين المتطرف كل صور الحياة المخالفة لفكره، ويدعو إلى التعامل معها باعتبارها تقويض للفضيلة التي يقدمها في صور من الكراهية والإلغاء التام للآخر، في حالة يبدو فيها وكأنه الوصي الأوحد على الفكر الإنساني، وأنه وحده الذي يمتلك قيمة الصواب، فيما سواه هم الخطأ المطلق في كل نتاجهم الإبداعي والفكري، متجاهلًا ومُغيبًا حقيقة أن الفن هو فرصة للرقي بالذوق إلى مستويات تحقق النبل الأخلاقي من خلال رؤية الحالة الإبداعية بشكل عام دون النظر إلى لون مقدم هذه الحالة أو جنسه أو معتقده، ما يجعلنا نتماهى مع بطولة الأخيار، ويمج ذوقنا خسة الأشرار، وهذا ما يعطينا فرصة لا لأن نلتزم بالخير فقط، بل لأن نحبه ونتمثله في حياتنا كنوع من الكمال و الجمال الإنسانيين.
- ثانيًا: يخشى المتطرف من الفن أيضًا قدرته على تشجيع الإبداع، ودفعه الناس إلى تجريب ما هو غير اعتيادي أو تقليدي، فإذا كان الصانع ينتج حسب قواعد سابقة، فإن الفنان المبدع هو من يسعى إلى وضع قواعد جديدة للإنتاج، وهذا ما يجعل المبدع هو الصورة المناقضة للمتطرف الذي يضفي على كل العوائد الثقافية نوعًا من المنع بحيث يصبح تشجيعها جريمة تقتضي المعاقبة والتقويض، لذا فالمبدع يعطي لنفسه حرية كبيرة في الإبداع الذي يتخذ منه تَعِلَّة لإيصال رسائله الفنية بشكل مبتكر، وهذا ما يجعل أحيانًا رسالة الفن تستمر عبر القرون الطويلة دون أن تفقد قيمتها ووظيفتها، لكن المتطرف في عدائه الأهوج لا يرى صناعة و لا فنًا، فتجده يسعى إلى تدمير كل ما يستشعر فيه حسًا إبداعيًا جماليًا، وهذا ما طالعنا به الدواعش يومًا وقد وصلوا أعتى درجات التوحش، وهم يدمرون في لامبالاة تعيسة الآثار الفنية في متاحف مثل تلك التي في مدينة الموصل بدولة العراق، وغيرها من الأعمال التاريخية التي هي إرث إنساني مشترك، لذا فعنف المتطرف أمام إبداع الإنسان هو في الواقع انتقامُ الضحالةِ من العمق، وتعبير عن حقد المتبلدين من المبدعين.
- ثالثًا: إن المتطرف يخشى من الفن قدرته على إشاعة الوئام الإنساني من خلال امتصاصه للنوازع العنيفة لدى الإنسان عبر التعبير الفني، ومن المؤكد أن هناك من الفنون ما كان حليفًا ومعليًا للذات الجمعية في المواجهات، لكن ذلك يعتبر لحظات استثنائية في تاريخ الفن الذي يزدهر أكثر حين يشيع السلام، ويغلب التواصل الإنساني المثمر، ويسهل التفاعل الإيجابي بين الشعوب، لذلك فإن سعي المبدعين إلى توسيع شريحة جمهورهم، يجعلهم يميلون من حيث المبدأ إلى الانفتاح وتشجيع التلاقح الحضاري، وهو ما يمكن أن نسجله في الحضور التاريخي القائم لفنون مثل المعمار أو الفن التشكيلي أو الموسيقى أو غيرها من المجالات في مختلف المناطق حول العالم.
- رابعًا: إن الطابع الكوني للفن هو دعوة ضمنية للتسامح و التقارب الحضاريين، ولهذا حينما يحظى الإنسان بثقافة فنية تضاف إلى باقي أشكال الثقافات الأخرى لديه، فإنه يصبح ذوي مناعة جيدة ضد رسائل المتطرفين الداعية إلى العنف و الفرقة والصدام، وفي هكذا حالة تبرز أدوار المتاحف و دور الأوبرا و المسارح في مكافحة الأفكار المتطرفة الضيقة، خصوصًا حين تنتشر ثقافات التفاعل الجمالي مع فنون الشعوب، وتقديم الأدوات المعرفية للتمييز بين المدارس الفنية وتعلم كيفية تذوق أعمالها المختلفة، وجميعها تُثري القدرة على النظر إلى الاختلاف كغنى حضاري، وليس كخطر أو كدعوة للمواجهة.
- ختامًا: قد يكون الفن ترياقًا ناجحًا في مواجهة التطرف، شريطة أن يخضع هو أيضًا للحماية من موجات الضحالة التي تفرغه من قيمته الجمالية، فحينما يتحول الفن إلى سلعة رخيصة لا يمكن أن نعول عليه في بناء المناعة ضد التطرف، بل قد يخلق ذلك هشاشة في ذائقة الأجيال الصاعدة، بحيث يكسبهم ذلك استعدادًا للتأثر بالخطابة السوقية السمجة للمتطرفين وهم يستعرضون خطابات الكراهية و الحقد في صخب مسرحي مقيت، لذا فالعناية بالثقافة والفن إنما هو اهتمام بما سيظل عالقًا في ذاكرة البشرية حول حضاراتنا وتقدمنا.