التوهيم والتهويل والتهوين

من أكثر ما يستفز عدوانية الجماعات المتطرفة والعقليات المصابة بلوثتهم الإيديولوجية، تماسك المجتمعات ووحدتها واستقرارها، وعلى الخصوص إيمان هذه الأخيرة بمؤسساتها، وفي المقابل، إن أدعى عنصر لتغول هذه الجماعات ومن يَلِيها من اتباع أو مغرر بهم، هو تسرب الشقاق والفرقة داخل البلدان التي أصابتها هشاشة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، إذ ما تكاد تظهر بوادر الأزمات في أي منطقة حتى ترتفع أصوات دعاة التطرف مُرحبة ومُألبة وداعية لاقتناص الفرصة لأجل الانقضاض على هذه البلدان، والسعي إلى تعميق جموح حراكها نحو المزيد من التصعيد والتقاطب والمواجهة، ولقد طالعنا التاريخ الحديث بمدى ارتفاع سُمية هذه الجماعات ودمويتها في تلك الحالات التي انهارت فيها مؤسسات الدول بفعل أزمات تاريخية مؤلمة، وكيف تتحول التنظيمات إلى دويلات قائمة الذات داخل الدول نفسها، إذا ما انتهت الأزمات في الحالات القصوى إلى حروب أهلية تفترس فيها المجتمعات أبناءها حينما تفقد بوصلتها المدنية والأخلاقية.

بهذا المعنى يصح القول أن مشروع الجماعات الإرهابية لا يتضمن واقعيًا أي خطة للبناء، فهي مبرمجة بفعل أطروحاتها العدمية لهدم ما هو قائم، على اعتبار أنها تشيطن كل أشكال التقدم أو التنمية أو الازدهار، وترى فيه انتصارًا للنظام الدنيوي، بينما هي تتخيل عبر أوهام منظريها أن المطلوب من الجماعات الدينية هو تسهيل انزلاق العالم نحو الكارثة، من خلال حرب كونية تهز أركان البشرية جمعاء، في انتظار ظهور عصر نبوئي متخيل سيمحو العالم كما هو في صورته الحالية، ولن ينجو إلا أولئك الذين يتبنون أفكار هذه الجماعات تحديدًا، بينما سيهلك غيرهم في هاوية تدمير كوني كبير. وهذه الأفكار التدميرية تسكن في عمق كل الإيديولوجيات من مختلف مشاربها دينية كانت أو غير دينية، فكل متطرف ينتظر المعركة الكونية الحاسمة، ولهذا فإن الاستقرار يتناقض مع تصوره للعالم وللحياة، ومن هنا، إن معاداة الأوطان هي جزء من الإستراتيجيات العامة للتطرف التي تقوم على ثلاثة محاور:

أولًا: التوهيم؛ الذي يتجلى في هذه الشبكة الهائلة من الادعاءات التي تغرق بها الجماعات المتطرفة أتباعها، فهناك أوهام مستعصية على الفهم، تسكن عقول من يقع ضحية لضلال التطرف وجهله المركب، إنها مجموعة من المعلومات الخاطئة، والتسريبات الزائفة، وأحاديث تدغدغ أحلامًا توسعية وبطولية، تنتهي في الأخير إلى دخول المتطرف في حالة من الخدر الفكري، مما يجعله مغلقًا تمامًا أمام أي محاول للحوار، أو القبول بالمراجعات الجدية لمقولاته الخصامية مع العالم أجمع. هذه الغشاوة الإيديولوجية هي ما يمثل المرحلة الأخيرة في مسار الأفراد نحو التحول الراديكالي في مواقفهم الأولية، التي تبتدئ كنوع من المآخذ الانطباعية المتعلقة بالخصوصيات والذوقيات، لكن مع التعرض الطويل لإستراتيجيات التوهيم، ينتقل هذا الفرد إلى مرحلة تستحكم فيه المعارف الزائفة التي يتشربها أكثر فأكثر كلما أقترب من الخطوط الحمراء للطرح المتطرف، إلى أن يتحول وطنه ذاته بالنسبة له إلى عدو، مبررًا ذلك بحزمة من الأخبار التي لا أصل لها سوى في أوهام المتطرفين، لكنها مع ذلك تتحول عنده إلى عقيدة نهائية، تنمي لديه هوية جديدة لا علاقة لها بهويته الأصلية، ولعل هذا ما يظهر من عملية استبدال أسمائهم الأصيلة بأسماء حركية تصِمُهم بوَسْمِ التطرف المقيت.

ثانيًا: التهويل؛ وهو تركيز المتطرفين على تضخيم المشاكل الاعتيادية في حياة المجتمعات، والترويج للنصف الفارغ من الكأس، وجعل الأتباع يعتقدون أن التحديات التي تواجههم ليست أحد قوانين الحياة، والتي تقتضي من الجميع التعاون لأجل التغلب عليها، بل هي نتاج لعدم أتباع تصورات المتطرفين وحلولهم المنقذة المزعومة، وهي عقاب إلهي موجه بسبب ذنوب لا يصح التكفير عنها إلا بإظهار العداء للأوطان التي يرونها مجرد كيانات لا أهمية لها ولا قيمة، أمام أوهامهم وأحلامهم ووعودهم التي قطعها لهم دعاتهم الذين عملوا على تنشئتهم الراديكالية، لهذا تصبح إشاعة المشاعر السلبية داخل الأوطان، واجب تنظيمي لأتباع التطرف، لأن نجاح خططهم الاستقطابية رهين بنجاح نشر رؤية سوداوية بين المجتمعات، خصوصًا بين فئة الشباب التي تمثل خزان الأتباع الأكثر أهمية بالنسبة للتنظيمات.

ثالثًا: التهوين؛ ويتمثل في السعي الحثيث للتنظيمات المتطرفة بكل أذرعها الظاهرة والخفية، في سبيل إضعاف الدول، والدفع بالهشاشة نحو الانهيار، ولعل ذلك ما يجعل هذه التنظيمات تخوض حملات كبيرة لتأليب الشعوب على مؤسساتها، وإعلان الحماسة والفرح والترحيب بكل محاولة لزعزعة استقرار البلدان الآمنة، فكما لو أن قوة الدولة تعتبر نفيًا مبدئيًا لقوة التنظيم، ومعيقًا جوهريًا لنموه وانتشاره، هذا ما يفسر مدى الاستفزاز المرضي الذي تحدثه في هذه العقليات صور التلاحم بين القيادات وشعوبها؛ إذ كلما يتجلى انسجام وتناغم بين مكونات الدول، إلا وتتسارع أبواق التنظيمات المتطرفة في محاولة للتشويش على مثل هذا الانسجام، وهي لا تتورع في استعمال أخطر الأسلحة وأكثرها دموية لأجل تحقيق مآربها الدنيئة، وعلى الخصوص اختراق المؤسسات الحيوية، وتحطيم اقتصادات الدول المتمنعة على محاولاتها التخريبية، وذلك بالتشجيع على التهريب والفساد والتزوير، وكلها تعد آلياتُ مقاومةٍ  شرعية في منطق هذه التنظيمات، لهذا يمكن القول إن هذه الأخيرة لا تتحول تدريجيًا إلى عصابات، بل إن كل تنظيم متطرف بما يملك من شبكات سرية للعمل، هو عصابة من حيث المبدأ، بل إن محاربة هذا الشكل من الحركات جرى دوليًا دائمًا على أساس أنه مواجهة للجريمة المنظمة، ولن تجدي كل مساحيق الوداعة واللطافة في إخفاء هذا البعد المظلم داخل جماعات من هذا القبيل.

ختامًا: يصح القول أن مكافحة الجماعات المتطرفة، لا بد وأن تتم على هذه المحاور الثلاث، فمن المفترض أن نواجه إستراتيجيات التوهيم بسياسة قوية لمحاصرة حرب المعلومات الزائفة، وأن نحاصر سياسة التهويل بجهد أكبر لإظهار الأبعاد الإيجابية داخل المجتمعات، والتركيز على حالات النجاح الاجتماعي المستحق، وجعله مثالًا يحتذى من طرف الشباب خصوصًا، وطبعًا إن الوقوف في وجه محاولات التهوين لا يتحقق إلا بدولنا المستقرة والقوية، التي تضمن بثباتها وعزمها، انكسار كل محاولة تفكر في الاقتراب من ثوابت البلدان.