اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. إضاءات
  3. التطرف وقناع الفضيلة

التطرف وقناع الفضيلة

يُحاول المتطرف دائمًا استغلال القضايا المختلفة، في محاولة للاستحواذ على الشرعية التي يفتقدها؛ ولم يستطع أبدًا أن ينالها، بقدر ما هو مرفوض من كافة المجتمعات بتنوع أعراقها وثقافاتها، ولهذا رغم المحاولات المتعددة للتنظيمات المتطرفة كي تخترق الفضاء العمومي، إلا أنها قد مُنيت بالفشل الذريع؛ فهي في كل مرة تُحاول أن تجد لها مكانًا في الضوء من خلال التخفي خلف شعارات رنانة، إلا أنها سرعان ما تنفضح أمام الناس والمجتمعات، حينما تبدو صورتها المقيتة واضحة للعيان، وتُثبت التجارب مدى عجز كفاءتها الزائفة في تدبير أي شأن، وكذب ادعاءاتها لتقديم الحلول والإنجازات، لهذا تكمن تلك التنظيمات في ظلمات الهوامش المجتمعية، أو في الجحور البعيدة والبئيسة لعصاباتها المنتشرة في مناطق الصراع، لكن ذلك لا يمنع أن أذرعها الإعلامية لا تتوقف عن ممارسة الخدائع المختلفة، في سبيل بث رسائلها الخبيثة المليئة بثقافة العنف والكراهية والفتنة والتحريض والسجال المتطرف، فهي تُحاول أن تعوض حالة الإقصاء والنبذ تلك من قبل الشعوب والمجتمعات بالحضور الكثيف على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي؛ وذلك من خلال مكرها التواصلي الذي يجب الحذر منه والتنبيه إلى شباكه المضللة.

وليس من عادة المتطرف أن يُصرح مباشرة بكل ما يُوجد في جعبته من خبايا دموية قاتلة، وعوضًا عن ذلك يتلبس أقنعة متنوعة الألوان والأشكال، ويتحدث صوتًا مختلف النبرات والتلميحات، وذلك حتى لا يكتشفه المتلقي في تمييز طبيعته الإجرامية الصادمة، لهذا تجده يُعبر بحماس عن شعارات ومقدمات، دون أن يصل إلى تبعاتها على مستوى الواقع؛ فيؤلب الناس على بعضهم البعض، وإذا حدث مكروه بفعل تأليبه هذا يتنكر لمسؤوليته، كما يفتعل خطاب السلم والتسامح والتعايش، على الرغم من أن كل ما يُصرح به مشحون إلى أقصى الحدود بقيم العنف والكراهية والتعصب، كما أنه يُكفر مخالفيه ويشيطنهم ويُخونهم، وإذا ما حدث وصادف هذا الخطاب من في قلبه مرض، فتطاول على حرمة حياة طرف ما، يخرج التكفيري ويعومُ النقاش بمفاهيم من قبيل تكفير المُعين وتكفير العُموم، في محاولة لأن يدفع عنه تهمة التسبب في كوارث لا ينبغي لإنسان سليم العقل والقلب أن يقبلها أو يدعمها أو يتبناها، وهو في صورته المتلونة هذه يتملص ويتهرب من المحاسبة والمتابعة، بينما يورط كل من يقع في شباكه في جرائم تقشعر لها الأبدان، ومن أهم القضايا التي يمتطيها المتطرف لتمرير أفكاره الخبيثة ما يلي:

  • أولًا: خطاب الفضيلة؛ وهو أحد حيل المتطرف الأكثر شيوعًا، حيث يقدم نفسه للآخرين على أساس أنه حارس الفضائل دون الناس أجمعين، وهذا يُفيد ضمنيًا أنه الأكثر تفوقًا على المستوى الأخلاقي، وهو في خطابه ذلك لا يُركز على إظهار الفضائل التي يُلزم بها نفسه في إطار حياته الواقعية، بل إنه يحاول تجريم أفعال الناس، ومحاكمة نواياهم، ويسعى إلى تعميم الخطأ إذا ما حدث ليجعله ظاهرة شاملة، وإلى حجب لحظات التفوق الأخلاقي داخل المجتمع من أجل ترسيخ رؤيته السيئة والتجريمية للناس، فالمتطرف لا يستطيع أن يكون شخصًا فاضلًا في شراكته مع الآخرين، بل إن فضيلته هي من حيث المبدأ قائمة على حسابهم وفي تقابل حاد معهم؛ فبقدر ما يركز على عيوب الآخرين، يُحاول أن يُقنع المتلقي بأنه يُمثل جبهة الفضيلة والطهر والصلاح والغيرة على القيم، وأن بوابة الأخلاق لا تُمر إلا عبره بالضرورة، وهذا ما يجعل طهره الزائف وهو يلعب على وتر المحافظة، ويُحاول أن يمكر بالناس ليقنعهم أن مسؤوليتهم الأخلاقية واحترامهم للتقاليد والأعراف تقتضيان منهم بالضرورة التعاطف مع التنظيمات المتطرفة حارسة الفضائل -بالنسبة له- وتبني مواقفها، ومن ثمة الانتماء إليها بشكل مباشر، متناسيًا أن الشخصية المحافظة هي أحرص ما تكون على أوطانها، وأن سلوكها الأخلاقي لا يقوم على إستراتيجيات خفية استقطابية، بل هو نتاج تشبع بقيم نالها الإنسان السوي عبر التربية والانتماء السليم إلى مجتمعه، وهو بهذا المعنى لا يتلاعب بالخطاب الأخلاقي من أجل أجندات أخرى، وإنما يُمارس سلوكه الفاضل في احترام لمجتمعه، دونما وصاية على الآخرين أو تطاول على صلاحيات مؤسسات وطنه.
  • ثانيًا: إن حقيقة البُعد المحافظ في جميع المجتمعات تُعطي توازنًا لها تجاه كل سلوك متطرف في الجانب النقيض، من خلال الالتزام الوطني بعيدًا عن أي خطاب استقطابي أو تجريمي، فهو بُعد يُرتب العلاقة بين الأجيال المختلفة، وبين المستويات التعليمية المتفاوتة، ولا يسعى أبدًا إلى خلق الصراع الإيديولوجي داخل المجتمعات، أو إحداث التقاطب السلوكي الذي قد ينتهي إلى رفع شعارات عنيفة وعدوانية تجاه المجتمع عمومًا؛ وهذا ما يُميز بين قيم المواطنة السوية والفكر المتطرف، ومهما تُحاول التنظيمات دفع الناس إلى الخلط بينهما، فإن بشاعة مآلات التطرف، تجعلهم يدركون بأن الوجه المجرم للإرهاب لا يتناسب أبدًا مع الوفاء للعادات والتقاليد داخل دينامية أي مجتمع سوي؛ وهذا ما يجعل كل محاولات المتطرفين في امتطاء موجة الوتر المحافظ تَبوء بالفشل والانفضاح.
  • ثالثًا: خطاب الوطنية الزائفة هو أيضًا أحد مداخل التطرف الماكرة، إذ يُكرس المتطرفون كل جهدهم للترويج لأنفسهم كحماة لمصالح المستضعفين في الأرض، وهذا ما يجعلهم يعملون بمكر على استغلال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية؛ فحيثما وجدوا حالة من الهشاشة إلا ودخلوا في بكائيات ومرثيات، غير أن خطاب التطرف مع ذلك لا يُقدم أي حلول حقيقية وواقعية لتلك الأزمات، بل يسعى إلى التحريض والتأليب وإطلاق التهم والشعارات حينما تتاح له الفرص، ويعمل على الإرجاف بنشر ثقافة الكراهية والعنف؛ سعيًا منه إلى ضرب اللُحمة الوطنية تمهيدًا لتدمير المجتمعات وتبديد ثرواتها؛ وبالتالي تقويض استقرارها وفرص ازدهارها.
  • رابعًا: إن المتطرف يُحاول أن يقدم نفسه كمصلح اجتماعي، لكنه يتغافل عن فكرة أن المصلح هو بالضرورة مواطن يحترم مؤسسات مجتمعه، وهذا ما يميزه عن المتطرف أو الإرهابي، الذي ينطلق مبدئيًا من معاداة هذه المؤسسات، والسعي إلى بث الصراع داخل مجتمعه، كما أن المصلح يملك مشروعًا متسقًا مع وطنه، بعيدًا عن المُثل غير الواقعية أو الاتجاهات الإيديولوجية، فهو لا يكتفي بالشعارات الرنانة، بل يُثبت على أرض الواقع مدى كفاءته في مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ولا يعتبرها قضايا يستغلها لاستقطاب الفئات الهشة مثلما يفعل المتطرف، بل ينظر إليها كتحديات يسعى إلى مواجهتها وإبداع الحلول حيالها، وهنا مرة أخرى يفشل المتطرف في استغلال الأزمات؛ لأن الواقع سرعان ما يُكذب دعاويه الزائفة.
  • ختامًا: من المؤكد أن أقنعة التطرف عديدة ومتنوعة، لكن ادعاء الطهر الأخلاقي واستغلال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية هي الأقنعة الأكثر رواجًا في أساليب التضليل التي تتبعها التنظيمات المتطرفة، وهي الأبعد عن الفضيلة الأخلاقية، فما تلبث إلا أن تنكشف أقنعتهم التي يخفون خلفها هويات مختلفة عن تلك التي يظهرونها أمام الناس من خلال شعاراتهم الكاذبة وأساليبهم الملتوية، من هنا ضرورة الوعي أمام ذلك التلاعب الماكر، والحرص على فضح الخطاب المزدوج لدعاة التطرف وكشفه مهما كان موقعه.