إن تاريخ الإنسانية هو تاريخ من التعدد الحضاري الأصيل، فما فتئ الإنسان مختلفًا في تصوراته حول العالم، ومتمايزًا في خلفياته الذوقية، ومتعددًا في أنماطه السلوكية، إلا وكان ذلك شاهدًا على الغنى الحضاري للإنسان، الذي يُمثل قبوله والتفاعل الإيجابي معه أحد الشروط الأساسية في الانخراط الحضاري السليم؛ ولهذا فقد كانت الحضارات المتوازنة عبر التاريخ هي التي استطاعت أن تتفاعل وتتلاقح مع باقي الحضارات، على خلاف الموجات البربرية التي مرت بالبشرية كجائحة تدميرية، تُراهن على العدوان دون أي هامش للسلام أو الاستقرار الحضاري؛ بعكس الحضارات القائمة على التفاعل الإيجابي، التي تُمثل إضافة نوعية للتاريخ وللحضارات الأخرى دونما محاولة محوها أو تدميرها، وهو الحال بالنسبة للفرد الذي لا يرى أنه كي يُحافظ على قِوامه الحضاري وأصالته الثقافية، لا بد له من مُناصبة الحضارات الأخرى العداء والكراهية، لكونه قادر على الانخراط في سياقات ثقافية مختلفة، والتفاعل مع الأبعاد العالمية للحضارات بشكل إيجابي.
وهذا التصور الحضاري التفاعلي الإيجابي هو بالضبط ما تفتقده الذهنيات المتطرفة، التي تنطلق من رؤى صدامية وعدوانية تجاه كل اختلاف حضاري، وترى في التنوع والتعدد الثقافي تحديًا مستفزًا، ودعوة للمبارزة والصراع؛ فالحس الحضاري للمتطرف مُصاب بحالة دائمة من التشنج الهمجي تجاه كل علامات التنوع الثقافي، وهو ما ينعكس على ميله المستمر إلى البحث الدؤوب عن مبررات الصراع، أكثر من تركيزه على ما يُمكن أن يبرر التفاعل الإيجابي، ففي منظومته القيمية والفكرية استعداد دائم لتبرير العدوان، وإساءة الظن والتشكيك في الآخر، وهذا ما يفسر إعاقته العميقة حيال الحوار الحضاري، وفشله الدائم في تقبل أو فهم الاختلاف.
وهذه الإعاقة التواصلية لدى المتطرفين تجعلهم في قابلية للسقوط في الهمجية، أو التطبيع معها حينما تحدث والإشادة بها، والنظر إليها كنوع من العلاقة الطبيعية مع الآخر، فهم لا يتوقعون منه سوى العدوان والخطر، لذلك يتأوَّلون كل ما يصدُر منه من سلوك مختلف على أنه تعبير عن النوايا السيئة، وتخطيط للاعتداء والصراع، وهو ما يدفع كل علاقة مع الآخر المختلف من منظور المتطرف، إلى الانزلاق نحو العنف والكراهية، ويُمكن تفسير هذه الرؤية الصراعية في النقاط التالية:
- أولًا: السرديات التخيلية التي تُقدَّم باعتبارها وقائع تاريخية لا غبار عليها، حيث لا تخلو أي إيديولوجية متطرفة من الاستناد إلى حكايات مُختلَقة تُصور ماضي الجماعة بأنه صراع قديم مع الآخر لم ينته بعدُ ولا ينبغي له أن ينتهي أبدًا، بل هنالك دائمًا في تلك الحكايات المتداولة ما يُبرر شرعية ذلك الثأر التي تظل باستمرار مصاحبة لصورة الآخر في خطاب التطرف، وبهذا المعنى يصطنع المتطرف لنفسه قائمة من الأحداث الخيالية التي لا يتوقف عن الترويج لها، والتفنن في بنائها الدرامي كي يُشيطن الحضارات الأخرى، التي يقدمها على أساس أنها لم توجد إلا على حساب اعتداء سابق، ولذلك فإن الأصل في العلاقة معها هو السعي إلى استعادة حق مغصوب والانتقام لغدر سابق، وبالتالي إن أي تفاعل إيجابي معها سيكون من باب خيانة العهد، وتقصيرًا في عملية الانتقام والثأر التي تُصبح مسؤولية تاريخية لا بد من أن تتوارثها الأجيال.
- ثانيًا: لن نكون قادرين على إبطال هذه الروح العدائية بين الحضارات، إذا لم نتمكن من تعديل وتصحيح الكثير من الحكايات المُختلَقة التي يُروج لها خطاب التطرف على المستوى العالمي، والعمل على بناء تاريخ إيجابي للمسار الحضاري الإنساني، ينظر إلى مولد وفناء الحضارات على أساس أنه انتقال لمشعل الحضارة من ثقافة إلى أخرى، وتطور تراكمي يُضيف المكاسب بعضها لبعض، وبالتالي فداخل كل حضارة مهما كانت، عناصر إيجابية ينبغي الامتنان لها من باقي الحضارات الأخرى، وهذا التصور التكاملي بين الحضارات المختلفة؛ وحده يُمكن أن يُقوض الخطاب التأليبي للمتطرفين، وكذلك أن يَحُول بين تشكل الرؤى العنصرية الداعية للصراع بين الحضارات، ويدفع عوضًا عن ذلك بالتوجه نحو الحوار الحضاري، والتسامح الإنساني، والسلم العالمي.
- ثالثًا: الاغتراب الحضاري هو أيضًا أحد أسانيد التصور العدائي لدى المتطرفين، حيث ينظر المتطرف إلى نفسه باعتباره كائنًا مستقل وحيد، ويتصور أن حالة العزلة هي قُدَره حيال التفاعل البشري الذي لا يعتبر نفسه معنيًا به، على أساس أن مشروعه الذي يسعى إلى تحقيقه لا ينتمي إلى مقتضيات الحياة كما هي، بل إنه غير ملزم بالتصرف حيال تحديات العالم الواقعي، لأن كل ذلك حسب تصوره لا معنى له ولا ضرورة، أمام تلك التطلعات الماورائية التي يهجس بها بشكل مرضي، والتي تستحق من منظوره تدمير العالم من أجلها؛ فالمتطرف لا يرى بأسًا في الاعتداء على شروط الحياة لأجل تسهيل حلول عالمٍ خيالي تنتظره كل الإيديولوجيات المتطرفة، التي تُقنع أتباعها بطرق شتى بأن الدمار الشامل للعالم في إطار معركة كونية بين الخير والشر هو شرط الخلاص، وهو مفتاح السعادة الفعلية، وذلك من خلال تأويل مغلوط لخطاب الأديان، الذي في حقيقته لا يرى في الواقع تعارضًا بين فكرة إعمار الأرض ونهاية الحياة المحتومة، بل يعتبر صيانة الحياة هي أكبر مسؤولية أخلاقية للإنسان، إذا ما كان يسعى فعلًا إلى حُسن الختام، وذلك التأويل الفاسد للأديان هو ما يجعل المتطرفين يعيشون عُزلة اختيارية داخل حقيقة جماعتهم الدينية، كما أن غرابة رؤاهم تحكم عليهم بالإقصاء، فلا أحد يملك حسًا سليمًا يُمكنه أن يقبل بالدخول في عُزلة حضارية من أجل خدمة قيم الموت والدمار، ومعاداة قيم الحياة المرهونة بشيوع التعاون الحضاري والسلم الدولي.
- ختامًا: يُمكن القول إن التطرف يُبنى على رؤية تدميرية، تتخيل أن العلاقة بين الحضارات تقوم على المحو والتدمير المتبادل، وأن الحرب الكونية ضرورة لا يُمكن تفاديها، ومثل هكذا رؤية تُغفل أمرًا أساسيًا في كل حضارة، مفادها أنه ما من ثقافة تتشكل من عناصر محلية خالصة، فمثل هذا الوضع لا يصح إلا بالنسبة للثقافات البدائية المعزولة، بينما الحضارات العالمية فقد تغذت وتشكلت بحكم الدينامية التاريخية الكونية من بعضها البعض، وبالتالي فكلما أعلينا من حضارتنا الخاصة، فإن ذلك يتضمن بالضرورة إعلاء لبعض عناصر الحضارات الأخرى الثانوية في ثقافتنا، حتى دون أن نفطن لذلك أحيانًا، فداخل هويتنا هناك دائما ما ينتمي لغيرنا، ومن هنا إن الاحترام الحضاري للآخر هو في الواقع تعميق لاحترام هويتنا المنفتحة والغنية بتجلياتها وتفاعلاتها الكونية، ولهذا فإن التشنج والعداء الحضاري لدى المتطرفين لا يتضمن فقط جهلًا بالتاريخ الفعلي للبشرية، بل كذلك إخلالًا بالاحترام حيال الذات نفسها، وتفقيرًا للهوية الثقافية، وهذا ما يجعل التطرف ليس فقط خطرًا على حضارات الآخرين، بل على الحضارة نفسها التي يدعي المتطرفون الانتماء إليها.