اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. إضاءات
  3. التطرف والشخصية الاستحواذية

التطرف والشخصية الاستحواذية

تستحوذ على المتطرف أفكار لا تسمح له بالاستقرار النفسي والفكري، ولذلك يُمكن النظر إلى السلوك المتطرف بأنه أزمة قلق مزمن تدفع بالأشخاص الذين يحملون قابلية التأثر بالخطاب المتطرف إلى فقدان سلامهم الداخلي، والوقوع في موجات من السوداوية، تجعلهم ينظرون إلى كل ما يحيط بهم من أحداث وأشخاص، بالكثير من الارتياب والاتهام والشيطنة؛ وهذا ما يُنمي بشكل تدريجي في دواخل المتطرفين رُهابًا حقيقيًا من الانتماء إلى الأسرة والاندماج في المجتمع، حيث إن خوفهم من الآخر الذي يظهر لهم دائمًا كخطر محدق يسعى إلى أذيتهم، وفي صورة كائن مفتقد إلى مقومات الأخلاق والثقة، يجعلهم يُصابون بنوبات قلق مرضي يصل في الغالب إلى ميولات عنيفة دفاعية، يُبررها المتطرف بأنها الوسيلة الوحيدة للنجاة من مؤامرة كونية تُحاك ضده وضد جماعته، وهذا ما يُفسر التناقض الغريب لدى المتطرفين الذي يجمع بين روح إجرامية لا حدود لها، وأوهام بطولية مصاحبة بشعور بالمظلومية وإحساس مرضي بالاضطهاد، وهو ما يُدخلهم عادة في موجة من الهذيان الجماعي الذي يُتيح لهم الدعوة إلى العنف والقتل.

إن هذه القدرة العجيبة على تقبل خطاب بمثل هذه الازدواجية المتناقضة، التي تجمع خطاب العدوان وخطاب الاستعداء في نفس الوقت، والتفاخر بالبطولات والانتصارات، والتباكي مع ذلك على ما تعانيه الجماعات من مظلومية زائفة، وتصوير التنظيم المتطرف لأتباعه أن مفاتيح التغيير بيده، وفي نفس الوقت الدعوة إلى الصبر على العجز وقلة الحيلة، كل ذلك يؤكد أن خطاب التطرف ينتظم في شكل هذيان مرضي أكثر من أي شيء آخر، ومرد ذلك إلى استحواذات وسواسية يُمكن إرجاعها إلى حالات من الهوس المرضي التي تُثير أزمات نفسية لدى المتطرفين والمتمثلة في التالي:

  • أولًا: هوس الهوية الذي يعيشه المتطرف كأزمة تؤثر على نضج شخصيته، وتجعله يفتقد إلى الاستقرار النفسي في التعاطي مع هويته الفعلية، إذ يعيش شروخًا نفسية حقيقية، تجعله يرفض أن ينظر إلى نفسه في ضوء الجماعة الثقافية التي ينتمي إليها، فهناك دائمًا هوية مفقودة يبحث عنها المتطرف في إصرار غريب، فيعقد عليها كل أمله للخلاص من أزمته الروحية والثقافية؛ وبينما يستند الآخرون على هويتهم الاجتماعية والثقافية ليخلقوا في ذواتهم مقومات الاستقرار والنضج، ويسمحوا للوشائج الاجتماعية المختلفة بتقوية صحتهم النفسية وتمتينها، يختار المتطرف أن يتملص بعنف نزقي من هذه الهوية التي يبالغ في اتهامهما وازدرائها، إلى درجة أنه لا يستطيع إثبات نفسه إلا عبر سلوكات صادمة في مخالفة المعهود والمقبول داخل المجتمع، فهو يحرص أن يكون على غير منوال جماعته الثقافية في الطقوس الدينية والعادات الاجتماعية، بل وحتى الشكلية التي تُشير إلى انتمائه الإيديولوجي، وقد يصل به الأمر إلى التخلي عن اسمه الأصلي وإبداله باسم تنظيمي يجعله يشعر بأنه “شخص آخر” غير ذلك الذي كان أول مرة قبل انتمائه إلى الجماعة، وهكذا تنهار مقومات استقرار الهوية لدى المتطرف بحيث يُصبح مفتقدًا لكل المؤهلات النفسية والاجتماعية التي تسمح له بتمثيل ذاته بشكل سليم.
  • ثانيًا: هوس الأصل الذي يجعل الشخصية المتطرفة تشعر بالقلق حيال ديناميات التغيير سواء على المستوى المحلي أو العالمي، فبينما يُقيم الشخص السليم حاضره بواقعية وعقلانية، ويحسب اختياراته على أساس ما يترتب عليها في أفق مستقبله القريب والبعيد، يبقى المتطرف عالقًا في تصور متشنج حول أصل بعيد، يؤدي وفاؤه الوهمي له إلى أن يعطل لديه كل قدرة على فهم الحياة كما هي في واقعها الراهن، كما يدفعه ذلك إلى النظر لكل الأطراف الأخرى على أساس أنها خائنة لعهدٍ منسي لا يوليه أحد أهمية إلا ذلك المتطرف وجماعته، دون أن يُدرك أن فكرة الأصل لا تتعارض أبدًا مع القبول بقوانين التغيير والتطور، وأن الوفاء لا يتحقق من خلال تكرار هذا الأصل حرفيًا في سلبية معطلة لقيم الحياة، بل يتحقق ذلك بتكييف المبادئ العامة في كل مرة على منوال جديد يتناسب مع متغيرات العصر؛ ولهذا فإن خيال المتطرف الذي يرى أن الأصل يُلغي فكرة الحاضر والمستقبل هو هوس مرضي يتكرر لدى المتطرفين، ويبرر نفس الجمود والعدوانية داخل الجماعات المتطرفة.
  • ثالثًا: هوس العدو الذي لا يُمكن لخطاب التطرف أن يشتغل ويتأسس إلا انطلاقًا منه، لأن المنطق السجالي والخصامي لهذا الخطاب هو في دوام الحاجة للأعداء، فبدون الاشتباك معهم لا يستطيع الاستمرار، ولهذا تحرص الجماعات المتطرفة على تمديد قائمة أعدائها إلى درجة تجعلها تضم في نهاية المطاف كل بني البشرية بشكل عام، كما أنها تُجرم قيم التسامح والتقارب التي ترى فيها خيانة للعهود، وذلك في واقع الأمر محاولة منها للتأثير على أتباعها لكي لا تفقد مبرر وجودها، ولهذا فإن التعصب وخطاب الكراهية يُمثلان الوقود لدى المتطرفين لإشعال نيران العنف، التي لا يُمكنها أن تشتعل إلا في ظل استحضار الأعداء، الذين يتفنن المتطرف في اختلاقهم عبر هلوسات المؤامرة والحروب السرية التي لا تخلو منها أي عقيدة متطرفة.
  • رابعًا: هوس الموت وهو يعبر في الواقع عن رد فعل حيال فشل المتطرفين في الاندماج في الحياة السليمة للمجتمعات، وكذلك يُنقذ تصورهم العدمي من محك التحقق والاختبار؛ فالموت يُمثل مهربًا نفسيًا بالنسبة للمتطرف، وأسلوبًا للتملص من المسؤولية بالنسبة للتنظيمات المتطرفة، التي تُوهم أتباعها بأنها تحمل مشروعًا إنقاذيًا، لكنها تقدم الموت كهدية سابقة لأوانها لكل من يؤمن بأفكارها وينخرط في صفوفها، فعوض أن يشاهد هؤلاء نجاح أو فشل ذلك المشروع العدمي يؤدي بهم إلى وضعيات انتحارية قاتلة، مما يُعفيهم من مشاهدة مآلات ذلك المشروع وإدراك فشله، لهذا يُمكن اعتبار الموت هو أقوى مخدر يتعاطاه المتطرف لكي يواجه أزمته النفسية المزمنة، فهو يُخلصه من رؤية العالم وإدراك الحقائق كما هي، وبالتالي يُجنبه صدمة الفشل والإحباط من خلال تضخيم الهلوسات الانتحارية في خطابه.
  • ختامًا: يُمكن القول أن التطرف بالإضافة إلى كونه إيديولوجية متهافتة بُنيت انطلاقًا من التلفيق بين عناصر دينية زائفة، وشعارات كاذبة، فهو أيضًا مؤشر على عدم توازن في الشخصية يتفاقم تدريجيًا، وأحيانًا في صمت قاتل، إلى أن يُصبح مرضًا مزمنًا من الصعب علاجه، فالعوالم المتخيلة التي يغرق فيها المتطرف بشكل مستمر، تُفقده كفاءاته الفكرية والنفسية الضرورية التي تؤهله للتواصل السليم، ولهذا من الأحرى بنا أولًا أن نراهن على الإجراءات الوقائية ضد التطرف، ومن ثَم الإجراءات العلاجية التي حتى حينما تتوفق أحيانًا في إخراج بعض المتطرفين من صعوباتهم، فهي لا تمنع الارتكاسات النفسية، والعودة في كل مرة إلى نقطة الصفر، لذلك فمبدأ الوقاية خير من العلاج والعمل على حماية المجتمع ووقايته من مخاطر التطرف هو سبيلنا نحو تحقيق الأمن والسلام.