حينما يقترب التطرف من الطفل، فإن الخطر حينئذ يكون قد وصل إلى درجاته القصوى، لأن الأطفال ليسوا فقط العنصر الأكثر هشاشة وعُرضة للتأثير والتوجيه، مما يقتضي حيالهم الكثير من الاحتياطات الوقائية، بل لأنهم مستقبل المجتمع وامتداده عبر الزمن، وهنا من يتمكن على الاستحواذ على أطفال المجتمعات، يكون قد ضمن بذلك رسم ملامح مستقبلها ومآلاتها، ونظرًا للأهمية المصيرية لهذا العنصر، يبني المتطرفون استراتيجية استقطابية خاصة للتمكن من الطفل ومحاولة التأثير عليه، سعيًا منهم إلى تشكيل امتداد للأتباع، قادرعلى أن يضمن استمرارًا لفكرهم المدمرعبر الأجيال.
ولايمكن لأحد أن ينكراستغلال التنظيمات الإرهابية للأطفال كوسيلة في حروبها الدموية، حيث تنتهك برائتهم وهي تضع في أيديهم أسلحة نارية كي تقدم أمام العالم عروضها الوحشية، وتُشركهم في عملياتها الهمجية البشعة التي لا يقبلها دين ولا أخلاق، فهم لا يكتفون بالاعتداء على حق الطفل في الحياة فقط، بل يغرزون براثنهم في أعماق روحه، فيختطفون منه طفولته، ويحولونه إلى كائن مشوه أخلاقيًا ونفسيًا يرتكب جرائم بشعة دون أن يطرف لهم جفن.
ولكي يتمكن دعاة التطرف من الحصول على مبتغاهم الآثم، فهم يؤسسون في أدبياتهم خطة لما يمكن أن ندعوه باستراتيجية التربية المضادة، التي تقوم على سحب الأطفال من منظوماتهم القيمية والأخلاقية، لتسهيل عملية اختطافهم النفسي والفكري، ولتحقيق ذلك يستعملون كل وسائل التضليل والخداع وغسل الأدمغة، ولهذا علينا أن ندرك مدى خطر هذه المعركة الكبيرة التي يعلنها المتطرفون على براءة أبنائنا، في سبيل استدراجهم نحو مشروعهم التدميري، وفي ذلك نقاط نوجزها في التالي:
- أولًا: إن أول خطوة تتبعها التنظيمات المتطرفة للوصول إلى أذهان الأطفال، هي استغلال طبيعتهم النفسية التي يغلب عليها الانفعال والخيال، حيث تعمل على تهييج انفعالاتهم وتأجيجها كنوع من الحماسة التي يحاولون ترسيخها في أفئدة الصغار، عبر تشجيعهم على تبني خطاب العنف والكراهية، ولعل هذا من الفروق الأساسية ما بين بناء شخصية الطفل عبر قيم الاعتدال التي تقوم على المبادئ الأخلاقية التي تتسم بالوضوح والعمق والرزانة، ومنطق التطرف الذي ينطلق من حالة الاحتدام العاطفي، التي تحوّل الطفل إلى كتلة انفعالية تفتقد إلى مرتكزات التوازن، وهذا ما يدفع بالأطفال للتحول إلى طاقة سلبية تتناسب فقط مع منطق الصراع والتدمير والهدم، وتتحول أبشع الجرائم في تمثلاتهم إلى بطولات تستحق الإعجاب والمحاكاة.
- ثانيًا: تركز التنظيمات المتطرفة على كسر وشائج الانتماء الأصيلة لدى الأطفال، بداية مع أسرهم القريبة التي تصوَّرُ لهم في شكل مسيء؛ حيث لا ينال مباركة ورضا خطاب التطرف إلا من ينخرط في مشروعه الإجرامي، ولهذا فإن الطفل يكون محظوظًا حسب هذا المنطق، إذا كانت أسرته جزءاً من التنظيمات المتطرفة، وطرفًا في عملياتها الإرهابية، فذلك يسهل مسار تحويله من طفل بريء إلى وحش قاتل، تحت ناظر والديه وبمساعدتهم، وقد يصل الأمر إلى دفع ذلك الطفل إلى الموت العنيف في احتفاء وإكبار وفرح مَرَضِيّ حيث يصل الفساد الذهني والنفسي ببعض المتطرفين إلى التحلل من رابطة الأبوة والأمومة، تحت تأثير خطاب تحريضي يفتقد للمقومات الأخلاقية للأديان وللإنسان، وحينما يكون طفل ما في حاضنة أسرته الآمنة، فإن خطاب التطرف يحاول أن يكسر صورة الأب المسالم والمنخرط في وئام مع مجتمعه ووطنه، ويحاول أن يصور ذلك كتقصير منه أمام واجبات خيالية لبطولات زائفة، فتتولد لدى الصغار أزمةُ نموذجٍ تُغذى من طرف المتطرفين بسرديات عنيفة، تتهم قيم السلام والعمل والبناء والتنمية، وإذا نجح هذا الخطاب فإنه يزرع بذور رحلة الانزلاق والتيه بعيدًا عن ثوابت الأسر وثقافتها المسالمة، نحو انتماء تعويضي جديد للأسر التنظيمية؛ التي تقدم نفسها بأنها المرجع التربوي الذي يعوض الأسرة التي كسرت صورتها وامتهنت عبر الاتهام والتجريم والتخوين، وهي نفسها الاستراتيجية التي تعتمد في كسر وشيجة الانتماء إلى المجتمعات والأوطان، حيث يتم تشويه رموزها مقابل تلميع رموز الإجرام الإرهابي التي تُقدم للصغار في صورة بطولية مخادعة، لهذا من المهم الحرص على تمتين الروابط العائلية من خلال التواصل السليم وحسن الاستماع والتفهم، لأن أي فراغ نتركه بيننا وبين أبنائنا، يمثل في الواقع فرصة لجعلهم لقمة سائغة للآلة الاستقطابية التي يحركها المتطرفون دون توقف على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يحتم علينا أن نبني لديهم الوازع الأخلاقي والفكري الذي يمنحهم حصانةً ضد هذه المحتويات، كما أنه من المهم ترسيخ القيم الوطنية لديهم والحرص على جعل أبنائنا يستوعبونها بشكل عميق، وأن يتشربوا تاريخهم الوطني، ويمتلئوا بالاعتزاز والفخر به وبرموزه التي ساهمت في بناء مجتمعاتهم وتحقيق القيمة لها، وهو مايمثل تحصين لهم ضد خطاب التطرف الذي يبتدئ خططه في الغالب من استعداء الصغار على أوطانهم وأسرهم.
- ختامًا: من الضرورة بناء استراتيجياتنا التربوية على أساس تهذيب الانفعالات، وإعطاء أطفالنا أدوات التحكم فيها، وعدم السماح لها بالتحول إلى انفعالات متطرفة، وجعلهم يتشبعون بقيم الاعتدال والتعايش، وأن نعمل على الحد من تضخم الجانب التخييلي في أذهانهم على حساب تفكيرهم النقدي السليم، وكذلك الحفاظ على روابطهم الأسرية والمجتمعية، وترسيخ حسهم الوطني وبناء إعجابهم بأوطانهم وتقديرهم لرموزها ومكتسباتها، وكل ذلك كفيل بإفشال استراتيجية التطرف حيال أبنائنا، وحمايتهم من هذا الخطر المتربص والماكر الذي يحوم حولهم.