التطرف واغتيال الهوية الثقافية

تتبع التنظيمات المتطرفة إستراتيجيات خادعة لتغيير الهويات الثقافية في المجتمعات التي تستهدفها، بحيث يسهل عليها تمرير أفكارها وإيديولوجياتها من جهة، ومن جهة تطمس تلك الهويات لإصابة المجتمعات بالارتباك حيال خطابات تلك التنظيمات.
ومن المعروف هنا أن الثقافة إنما تكتسي قيمتها من أمرين، أولًا من حيث ما توفره من إثراء معرفي للحفاظ على هوية المجتمع، وثانيًا ما توفره من بدائل في ذات قيمتها أو ما يُعرف بالقيمة التبادلية، التي يمكن أن تأخذ صورتين مختلفتين من حيث طبيعة القيمة نفسها، فقد يكون التبادل ماديًا مثلما هو الحال في التجارة أو المقايضة، كما قد يكون رمزيًا مثلما هو الأمر في السلوكيات الطقوسية، فتبادل التحية مثلًا قيمة اجتماعية مصيرية في بناء العلاقات، وتمتينِ الروابط، وتسهيل التواصل، وهي تجري في إطار طقوسي يستجيب لما تفرضه الجماعة على الفرد من أنماط لغوية دقيقة، تضع في الاعتبار أطراف العملية التواصلية، وقيمتهم الاجتماعية، وسياقهم التداولي الخاص، وإذا ما حدث أي إخلال بتلك المراسيم الرمزية، فقد ينجم فقدان للمنظومة المجتمعية بكل ما تتضمنه من قيم وثقافات، ومن هنا فإن القيمة الرمزية للأشياء والكلمات والأفعال، تحوز أهمية مصيرية داخل المجتمعات، ومن ذلك ما يلي:

أولًا: ما يميّز البُعد الرمزي للثقافة هو ارتهانه بمدى الكفاءة في حسن تأويله وضبط معانيه، انطلاقًا من مرجعية مجتمعية واضحة وذات مصداقية، وإلا فإن القيمة الرمزية مثلما هو حال العملات التي تسمح بالتبادل التجاري، يمكنها أن تخضع لعملية تزوير إجرامية؛ على غرار العُملة الزائفة المتطابقة شكلًا مع العملة الحقيقية، رغم افتقادها التام لأي قيمة حقيقية.

 ثانيًا: من المهم، بل من الضروري أخذ الحيطة في مراقبة مجال التداول التبادلي للرموز الثقافية، لأن الخسارة في حالة العملات المزورة تهُم صفقةً عابرةً يمكن تعويضها بسرعة، لكن الخسارة على مستوى الرموز الثقافية، قد تطال مجتمعًا بأكمله، بحيث سيكون مرغمًا عبر أجيال طويلة على أن يواجه توابعَ تزييفٍ لقيمه وأفكاره وهويته الثقافية نفسها، ونُشير في هذا الصدد إلى محاولات جماعات متطرفة عبر التاريخ في تزوير الرموز الثقافية المشتركة لمجتمعات بعينها، مما انتهى بحروب أهلية، لم تنشأ في الغالب إلا حول توترات اختلقتها احتيالات ما يمكن وصفهم بلصوص الرموز الثقافية.

 ثالثًا: يمكننا بهذا المنطق أن نعتبر كل جماعة متطرفة تسعى إلى الاستحواذ على رموز ثقافية لحضارة معينة، بأنها جماعة إجرامية تشتغل في مجال التزوير، مما يُبرر متابعتها ومراقبتها ومعاقبتها، وذلك على غرار ما يصح في شأن عصابات تزوير العملة سواء بسواء، بل لعل ما تمثله الأولى من خطر، يتجاوز بدرجات خطر مزوري العملات، ولهذا حينما يتعلق الأمر باستراتيجيات تأويلية تتعاون فيها تنظيمات متطرفة، تملك كَتَبتَها و مُرويجيها ومُخرجيها يعضُد بعضهم بعضا، لأجل نهب الرأس المال الرمزي للشعوب، من خلال ليِّ أعناق الحقائق، وإحداث انزياحات دلالية للرموز الثقافية بسوء نية مبيتة، في سبيل أن تحقق لهم هذه العلامات الرمزية مكاسب على المستوى الشخصي أو التنظيمي، وهنا لا يتعلق الأمر بمجرد اجتهادات، بل تصل إلى حد الحرب الحقيقية إذا لم تؤخذ مأخذ جد، حيث يمكن أن تنجم عنها كوارث اجتماعية قد تصل بالمجتمعات إلى حالة إفلاس معرفي حقيقي، لهذا من الدراية الحرص على حماية القيمة الرمزية الثقافية داخل المجتمعات، وعدم تركها لأهواء مروجي الشبهات، الذين يُغرقون المجال التداولي للغة، بمحتويات تجعل الرأي العام لا يستطيع التمييز بين الحقيقي والزائف، وبين الدلالات الأصلية للرموز الثقافية، والتأويلات المتلاعبة و الماكرة فيها؛ إذ ليس من المعقول تمامًا أن نبذل كل الجهد لكي نحمي ورقة نقدية مهما علت قيمتها من ضمانات المؤسسات المالية، حمايةً لها من التزوير، بينما نُطلق العنان لغير المعنيين في تحديد القيمة الرمزية الثقافية، فهذه الأخيرة تحتاج بدورها إلى مؤسسات مرجعية تحدد معانيها وقيمتها، بعيدًا عن الاحتيالات الخطابية المتطرفة.

 رابعًا: إن كلمات ثقافية من قبيل الإيمان والكفر، و”الجهاد و النفاق و الردة”، والحلال والحرام، وقيمة الرجل والمرأة، ومفهوم أهل الكتاب و العهد والذمة والحرمات والمقاصد والمنافع والمفاسد، وغير ذلك من المفردات التي تأخذ طابعًا رمزيًا وقيمة ثقافية في علاقات الناس بعضها البعض، هي أكثر خطرًا على مستوى القيمة التبادلية الرمزية، ذلك لأنها لا تحمل مجرد دلالات شخصية تهم من يستعملها فقط، بل إنها ترهَن العلاقات الاجتماعية كاملة وتحدد مصيرها، فالذي يروّج لمفهوم فاسد وزائف لـ “الجهاد والردة”، لا يختار لنفسه فقط، بل يختار للآخرين أيضًا، ويجعل دماءهم وحرماتهم وأموالهم موضع تلاعب وخداع، ما يتطلب وعي مجتمعي عام للمشاركة في وقف هذا التزييف بدقة وصرامة، لأن الأمر هنا لا يتعلق باختلاف في الآراء، بل هو بالأحرى إستراتيجية عدوانية لمنع ومصادرة كل الآراء، ما عدا تلك التي تعبّر عنها هذه الإيديولوجيات، وهي تبث مشاعر الفرقة والكراهية والتشكيك في المصداقيات بأشكالها داخل المجتمعات.

ختامًا: لا فرق بهذا المعنى بين من يختلس ويزور العملة النقدية ومن يفعل الشيء ذاته مع الرموز الثقافية للمجتمعات، فكلاهما ينسف مصداقية القيمة التبادلية، مما يعطل فعل التواصل و التبادل، ويُعرض مصالح الناس ومكاسبهم للخسائر، ما عدا أن الأول يقوم بالأمر عبر إغراق السوق بالعملة الزائفة التي تُفقد العملةَ الحقيقية قيمتها، والثاني من خلال خلق تضخم لغوي ودلالي يُفرغ المفردات من معانيها الحقيقية ما يجعلها في نهاية المطاف بلا معنى؛ وفي ذلك تدمير للقدرة على التواصل والتوافق والتعايش، وهي قيَّمٌ إذا ما فُقدت داخل المجتمعات، وإذا ما افتقَدت مرجعيات مؤسساتية لحمايتها، يصبح الأفق عندئذ مفتوح على كل الإفلاس الثقافي، وعلى انهيار شامل للقيمة بكل أشكالها.