اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. التدريب الجامعي

التطرف من سِرِّية الكهوف إلى سرية الشبكات التواصلية

عرف التاريخ الإنساني دائمًا حركات سرية انغرست في خاصرة الدول العظمى، وسعت في صمت خلف ستار التخفي، والمكر التنظيمي، وآليات الاختراق باللعب على حبال خطابات متعددة متداخلة، نحو تنزيل مشروعها الذي يكون دائمًا ثمنه هو تدمير استقرار الدول القائمة، في سبيل إقامة ما يعتبرونه خلاصًا للعالم من الشرور، وانتصارًا للخير وللنور على ما يرونه ظلامًا وضلالًا، هذا، حتى وإن أثبتت التجارب دائمًا أن هذه الأحلام السرية التي تتلبس العقول بخداع التزييف الفكري والتجييش النفسي، في الغالب ما تنتهي إلى كوارث وانكسارات في حياة الأوطان، بحيث يصعب جبرها أو تجاوزها، وهكذا يتحول الهدم إلى غاية في ذاته، وتُنسى الوعود المتخيلة في خضم الصراع الذي قد تجر هذه الأوهام المجنونة الشعوبَ إليه، ليظل السؤال العالق الوحيد عنئذٍ، هو كيف نتخلص من آثار ما اعتبر خلاصًا ودواءً، فكان مهلكة وجائحة لا شفاء منها.

إن الطابع السري للتنظيمات الإيديولوجية ليس مجرد استراتيجية مرحلية، بل إنه جوهر هذه التصورات التي لا تملك في واقع الحال أي مشروع مستقل للبناء، وإنما كل آلياتها الفكرية والعملية مرتهنة بمشاريع الآخرين، وبمحاولة نقدها وعرقلتها، بل وتدميرها إذا حصلوا على الأدوات لذلك، وهذا ما يميز التوجهات التخريبية عن التوجهات الإصلاحية، فأما هذه الأخيرة فتعتبر أن تطوير الرؤى، وإعادة مراجعة الاعتبارات والتصورات، هو جزء أصيل من دينامية البناء، وأن المراجعة والإصلاح لا تقتضي بالضرورة الهدم والتخريب والتقويض، لأن النقائص والأخطاء هي مظهر من مظاهر الفعل الإنساني، وأن المكارم ليست هي الخلو من النقص، بل بالأحرى هي السعي المستمر إلى الكمال الممكن، بمحاولة الاستكمال المستمر للمشاريع الإصلاحية الكبرى، ومن هنا فإن العمل في الضوء وحسن النية هما الطابعان اللصيقان بالعقلية الإصلاحية، على عكس العمل التخريبي المتطرف الذي ينطلق دائمًا من أسطورة تسكن أنسجة فكره العميقة وتوجساته المريضة، والتي تجعله يفسر كل شيء بمنطق المؤامرات، ولهذا فالمتطرف لا يسعى إلى مواجهة المشاكل بمثل واقعية الإصلاحيين، وإنما يغرق في هلوساته القهرية بالخطط المُبيتة، وبالأبعاد الخفية التي لا يراها إلا هو وجماعته، وهكذا ينتهي إلى الاعتقاد الأعمى بضرورة اللجوء إلى السرية، احتماءً من هذا العدو المتخيل الذي تَخَلَّقَ في الواقع نتيجة لما يحمله في ذاته من ضغائنَ تشربها من تلك الإيديولوجيات التي تؤطره، وهي نفسها الأفكار التي تبرر له ضرورة الانخراط في مشاريع الهدم، ما دام أن العالم الخيالي الذي يسكنه لا يمكن أن يكون حسب هذا المنطق استمرارًا لأي نموذج فعلي على أرض الواقع؛ السرية إذن هي روح التطرف، والسعي إلى الهدم هو غريزته العميقة.

لكن لأن الحركات المتطرفة ذات طبيعة فكرية خالصة، لها مطامع في حيازة السلطة، فهي تجد نفسها مضطرة إلى افتعال خطاب مزدوج تخفي به طبيعتها الفعلية عنه الناس؛ لأنها تحتاجهم في ممارسة ضغوطها وألاعيبها السياسية والاجتماعية، ومن هنا فهي تتصرف في هيكلة هيئات حزبية، أو كيانات جماعاتية تمثل الواجهة التي تستقطب من خلالها الأتباع والمتعاطفين من خلال العزف على الأوتار الأكثر ملامسة لقلوب الجمهور الواسع، لكنها في ذات الوقت، تزرع  خلف هذه الواجهة تنظيمات سرية لا تنفتح أبواب الانتماء إليها إلا للخاصَّة، الذين يصلون إلى درجة من الولاء الإيديولوجي، تسمح بإدماجهم وإشراكهم في ما يعتبر أعمالًا صادمة بالنسبة للمتعاطفين البسطاء، وهذه الازدواجية كانت منذ القدم الوسم الخاص للحركات السياسية السرية .

وانتهز المتطرفين المعاصرين في هذا العصر الرقمي الذي يضعنا على عتبة تحولات جذرية في تصورنا للمكان، وللزمان، وللذات، وللحدود، وللهويات، هو كون هؤلاء وجدوا ملجأ استثنائيًا على مستوى الشبكة العالمية، حيث إن العالم الافتراضي وضع رهن إشارتهم أدوات ما كانت لتخطر على بال أحد قبل حدوث الثورة الرقمية، وهذا ما جعل حراكهم واستراتيجياتهم، بل وطبيعتهم التنظيمية تعرف تحولات كبرى تبعًا لما يَجِدُّ من إمكانيات على المستوى الاتصالي والتقني، ويمكننا أن نذكر في هذا الصدد مظهرين من مظاهر التحولات التي طالت الطابع السري لهذه التنظيمات:

  • أولًا: لم تعد السرية في دلالتها الرقمية تفيد الانسحاب من الفضاء العمومي، ولا اتخاذ تلك المسافة المكانية التي كانت تدعى بهتانا “بالهجرة” داخل أدبيات التطرف التقليدي في القرن الماضي، لقد أصبحت القطيعة التي يجريها المتطرفون مع مجتمعاتهم تجري قبل كل شيء على أساس رقمي، إن المرابطة داخل مواقع وحسابات خاصة ومغلقة على الشبكة، والتخلي النهائي عن اعتماد المواقع الرسمية ذات المصداقية، هو الشكل الجديد لسرية التلقي، على الخصوص حينما يجري ذلك على منصات أو حسابات مغلقة، ولقد أصبح ذلك متاحًا من خلال التسجيل على منصات توفر قدرًا كبيرًا من الحميمية التواصلية المحمية بإجراءات برمجية وسيبرانية بالغة التحصين والقوة، وهكذا أضحى متاحًا تقريبًا بدون أي كلفة تذكر، بناء قلعة رقمية يتجمع فيها الأتباع دونما الحاجة إلى مغادرة المجال الجغرافي لانتماءاتهم الرسمية، بحيث يمكن القول أنه أصبح من الممكن مغادرة الحدود دون تجاوزها الفعلي، وهذه المفارقة العجيبة هي وليدة لممكنات العالم الافتراضي، التي أتاحت ما يمكن دعوته بـ”الهجرة الافتراضية” التي ستخلق جماعة من الغرباء بين ظهراني الشعوب؛ وإن المتابع المتخصص لمثل هذه المخابئ الرقمية، يقف فعلًا على كمية من العداء المرضي يحمله بعض هؤلاء المنخرطين في مثل هذه الحسابات الرقمية المغلقة، حيال أوطانهم وأسرهم ومؤسساتهم، فكما لو أن هذه السرية الافتراضية التي تشتغل على شكل غشاوة فكرية وأخلاقية، تفضح مدى غرابتهم وغربتهم البئيسة، حتى وإن استمروا في الإقامة بين أهاليهم.
  • ثانيًا: لقد سمحت إمكانية إخفاء الهوية الرقمية على الكثير من المنصات، بممارسة سرية معكوسة، حيث لا يتخفى صاحب الحساب الوهمي عن الظهور، بل على العكس إنه يحاول أن يكون حاضرًا باستمرار في النقاشات المفتوحة حول قضايا المجتمع، ويتصرف كما لو أنه هو بشخصه الفعلي من يعبر عن تلك المواقف العدمية من ثوابت وطنه، وبذلك يخلق وهما خطرًا، بوجود أطراف من داخل المجتمع نفسه تتبنى وتدعم أفكارًا شاذة باسم الغيرة على الأوطان أو الأديان أو القيم الأخلاقية؛ في هذه الحالة لا تتعلق السرية بالتخفي ولكن بالظهور الزائف، وبافتعال خطاب مختلف عن ذلك الذي يتداولونه في خاصة حساباتهم الرقمية العميقة والمغلقة، ويتمثل دوره على الخصوص في اكتساب تعاطف المتابعين بعيدًا عن حقيقة الأتباع الرسميين، إذ لا نستبعد في هذا الصدد أن نجد من تراه يروج لصورة تعادي العنف وخيانة الأوطان، والتعاطف مع الفئات الهشة، ما يجعله يبدو في مظهر إنساني جذاب، وهذا الشخص نفسه قد تباغته في حساباته المغلقة، وهو يبارك أبشع صور العنف والكراهية والعنصرية، وفي كلتا الحالتين سواء في إطار السرية المغلقة الصريحة أو السرية المنفتحة المخادعة، إن هذا الشخص يسعى في بناء مشروعه العدائي ضد وطنه، معتبرًا ذلك واجبًا وبطولة استثنائية.
  • ختامًا: من الواضح أن التطرف هو ربيب العيش وراء الأقنعة، والمداهنة والدسائس والخدائع، ولهذا فإن التاريخ يشهد أن الكثيرين ممن كانوا يُعتبرون نماذج أخلاقية عالية لأتباعهم، ظهروا حينما تَكَشَّفَتْ أوراقهم وانفضحت أعمالهم السرية، في أبشع صورة أمام العالم، والتي هي حقيقتهم المتوارية وراء احتياطات الحياة السرية التي تعتبر جزءً من عقيدتهم التنظيمية. ولقد تولدت عن الثورة الرقمية أشكال جديدة من هذه الحياة المشبوهة، ويبدو أننا نعيش على عتبة ثورة جديدة كليًا في مجال الذكاء الاصطناعي التي ينبغي متابعتها عن قرب، لأنه سيكون لها لا محالة أثر في سلسلة تحولات أقنعة المتطرف والإرهابي، التي يتوارى خلفها رغم ذلك نفس الوجه المقيت الذي نعرفه، والذي أصبح الجميع على وجه التقريب يعرفه أيضًا.