د. منصور الشمري
الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف – “اعتدال”
في سياق التَّحدياتِ والمتغيّرات المتسارعةِ التي يمرّ بها العالمُ اليومَ، تأتي أهميةُ مكافحةِ التَّطرف خطَّ دفاعٍ أساسياً، وضرورةً لحماية الأمن والاستقرار، لكنَّ هذه المكافحة للتَّطرف تعتبر من أكثر المهام تعقيداً، لأسبابٍ تتعلَّق بالفكر المتطرف ذاتِه، وقدرتِه على التحوّل والتكيّف والمراوغة، وتوظيف التقدّم التقني في عملية الوصول السريع والتأثير، ما يجعلُ مجالَ المكافحة معنياً بالدرجة الأولى بالتعامل يومياً مع كمٍّ هائلٍ من المنشورات المتنوعةِ والمقالات التنظيرية، ليست فقط التي تُحرّض على العنف بصورةٍ واضحة ومباشرة، ولكنْ أيضاً تلك التي تتعاطَى وتتناول الآليات القائمة وراء الميل نحو تبنّي سلوكٍ خارج عن المألوف لدى أفراد يُعدّون بالنسبة للباحثين عينةً تمثيلية، من خلالها يرسمون ملامح الشخصية المتطرفة عموماً، وعلى أساسها يقترحون حلولاً تدور في غالبها على إعادة الإدماج، والتأطير التربوي، والدعم النفسي. ولا شك أنَّ هذه المقاربةَ جيدةٌ في بناء الممكنات الوقائية التي تسمح باستباق التحولات لدى الأفراد نحو المستويات الحرجة، التي قد تؤدي في أسوأِ الأحوال إلى الوقوع في جرائم الإرهاب.
لكنَّنا هنا سنواجه السؤال التالي: هل التركيزُ على الفرد في محاولة فهم ظاهرة التطرف كافية؟ وهنا لن تكون الإجابة بنعم، أو لا، وإنَّما يمكن القول بأنَّ هذا سيحجبُ عنّا طرقاً أخرى لفهم الخلفيات العميقة للتطرف التي تتجاوز البُعد الفردي، أو السياقات الثقافية والاجتماعية؛ لأنَّنا في كل هذه الحالات سنظلّ دائماً مرتبطين أكثر بالنتائج والأعراض، بدلاً عن البحث في الجوانب العميقة وغير المرئية التي تُشكل الأسباب الموضوعية القائمة خلف حدوث مثل هذه التشوهات الفكرية؛ إذْ إنَّ هناك عواملَ تتجاوز الأفراد ككيانات مستقلة، والمجتمعاتِ كأنساقٍ ثقافية خاصة، لتُشكل ما يشبه المُركّبات المُعقدة والمتداخلة، تولِّدُ قابليات حادة للتطرف ترتبط بأزمنة معينة، أو بامتداد جغرافي أو حضاري، أو عرقي، طائفي، آيديولوجي، لتصبح –هذه القابليات- حاضنة تلقائية للتطرف على المستوى الفكري والسلوكي والتنظيمي، وترتفع داخله مستويات الراديكالية على جميع الأصعدة، فيحدث ما يشبه المناخَ العام الذي يُنتج ردود الفعل المتطرفة. وهنا، تصبح المشاعر النفسية أو السلوكيات المُتصفة بالتطرف ظاهرة سطحية ليس إلا، فلا تتّضح معانيها العميقة إلا حينما نتجاوز المستوى الظاهرَ في السلوك، بالبحث عن الخلفية المتمركزة وراء ذلك.
إذن، فأسباب التطرفِ مُركَّبة وغير مرتبطة بالاختيارات الفردية الخالصة، حتى وإن بدت في الظاهر كذلك، وإنَّما ما يُمثل العمق لهذه الظاهرة، والعِلة التوليدية لمظاهر التطرف المختلفة هي الأشياء السابقة عن النتائج اللاحقة لهذه العوامل؛ ولهذا يكتمل مجال فهم الآيديولوجيات حينما ننتبه إلى أهمية تقصي المكامن المُسبقة في العقول لقابليات التطرف في ذاته؛ كبِنية سابقة عن المتطرفين أنفسهم، باعتبارهم مجردَ عينات وقوالب ونماذج نوعية ليس غير.
وبطبيعة الحال، فلن يكونَ من المناسب الحديث عن التطرف، إلا حينما تتحوَّل عوامل معينة، أو أفكار، أو قناعات، أو أوضاع، أو مرجعيات إلى مسوغات لتبرير حالة صراعية، وفي هذه الحالة إذا لم نكتشف ذلك في الوقت المناسب فيمكن لهذا الصراع أن يدمر العناصر الأساسية التي تشكل خصوصية الطبيعة الإنسانية، التي خرجت من الهمجية إلى التمدن عبر بناء مؤسسات الدولة التي تعتبر الضامن الأساسي لعدم انحدار الإنسان نحو مستويات دونية. لهذا فإنَّ رصد وتحديد عوامل الخطر التي يمكنها أن تطلقَ الشرارة الأولى لمثل هذه الميول المتطرفة سيكون أولوية قبل أي شيء آخر.
إنَّ الوصول إلى المحركات الآيديولوجية الأساسية للمجتمعات وتحديدها على وجه الدقة سيكون محل أهمية مصيرية في الفهم الموضوعي والاستراتيجي للتطرف، من حيث هو عامل خفي في سياقات معينة، فرصده والوصول إليه، وتحليله ومعرفة مداه وتداخلاته، ستجعل عملية المكافحة تصل إلى تحقيق أهدافها، التي من المناسب أن تبدأ بالتخلّص من النزعة التنظيرية في التعاطي مع تحديات هذا الملف؛ لأنَّنا في هذه الحالة سنكون قادرين على إيجاد مرجع فاعل ومتماسك لكل خططنا الوقائية والاستباقية حيال التطرف، غير ذلك، سيكون علينا دائماً أن ننتظر حدوث ظاهرة صراعية بشكل علني وعبر سلوك فردي أو جماعي، لنحاول بعد ذلك التعاطي معها، وفي الغالب يحدث ذلك بعد فوات الأوان، وهنا تصبح الخطط الاستباقية غير ذات جدوى من الأساس لأنها مبنية على ظواهر تتكرر دون معرفة دوافعها وأسبابها العميقة، وعلى العكس من ذلك إذا ما رسمنا خريطة خاصة بنا حيال الممكنات الصراعية من خلال تتبع أصولها ومكامنها الدقيقة دون استثناءات وعبر العالم كله، وكأنَّها حالة تشبه تتبع حالات الطقس والبراكين والأعاصير والزلازل والأفلاك، فما يحدث في نقطة «أ» سيكون له تأثيرٌ على نقطة «د» وهكذا، هنا ستكون المقاربة الشمولية لخطر التطرف أكثر واقعية وفاعلية وتحمل صورة المكافحة الاستراتيجية.
نشر في صحيفة “الشرق الأوسط” الإثنين 20-10-2025