يتعايش المتطرف بالانفعالات المرضية الرافضة والطاردة لكل مختلف ، حتى إذا أعوزته الحوادث المثيرة لها، فهو يختلقها كي يستمر في بث مشاعره السوداوية، وعلى رأس قائمة مثل هكذا انفعالات تأني محاولة المتطرف الترويج لغيْرة استثنائية تجعله يظن أنه دون سواه من يمتلك الحق والصواب المطلق في توجيه المجتمع المحيط به بزعم الغيرة العقائدية أو الإيديولوجية أو العرقية على ثوابته، إذًا فكل متطرف هو نموذج مفترض لذلك الشخص الانفعالي الذي يتوهم زيفًا أنه وحده يمتلك نواصي الغيرة على الدين بالنسبة للتطرف الديني، ويمتلك مسؤولية الحفاظ على العرق بالنسبة للتطرف الإثني أو الفكر للتطرف الفكري، وهكذا دواليك، حيث يعد انفعال الغيرة أحد مداخل تضخيم الذات، وإضفاء هالة البطولة عليها؛ فكل آخر لدى المتطرف حسب هذا المنظور، ما عدا الجماعة التنظيمية للمتطرف، يعاني نقصًا في الغيرة، وبالتالي فهو في درجة أدنى من المتطرف ـ البطل المزعوم ـ ، الذي يستحوذ خياليًا على الصدارة دائمًا، بفعل هلوساته الانفعالية، وفي ذلك نقاط نوجزها في التالي:
- أولًا: من المهم عدم الانسياق في المزايدات مع المتطرفين، لأن المهم في الغيرة ليس هو الانخراط المرضي في التعبير عن الرفض، ولكن في رزانة المواقف واتزانها، فالغيرة يقينًا هي أحد مكونات المروءة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، لكنها ليست مجرد رد فعل انفعالي تدميري مثلما يحاول المتطرفون تمرير ذلك، بل هي فهم موضوعي للوضعيات، وبناء عقلاني للمواقف، وإلا فإن الغيرة كثيرًا ما آذت موضوعها أكثر ممن أثارها من الأساس، بحيث تتحول إلى مبرر للمزيد من الافتئات على الموضوعات التي تقتضي الاحترام والتقديس.
- ثانيًا: يتعلق الانفعال بمشاعر العداء؛ إذ لا يمكن لآلة الفكر المتطرف أن تشتغل على جميع المستويات، إلا حينما تتوفق في إيجاد مبررات قوية تجعل طرفًا أو أكثر تجسيدًا للعدو المطلق، الذي لا مجال للتصالح معه، أو التعاطي معه بمنطق آخر غير منطق المواجهة والصراع، والمتطرف كي يتمكن من إيجاد هذا العنصر لا ينفك يضخم الحوادث الجانبية أو الاستثنائية، لكي يجعلها قانونًا جوهريًا في الحكم على من يضعهم في خانة الأعداء، بل وقد ينتقل في إطار هكذا مفهوم إلى تزوير الحقائق التاريخية، وبالتالي التلاعب بالذاكرة الجماعية، كي يبرر دعوته لمناصبة المجتمع العداء، والتعبير عن ذلك بممارسات جماعية، على أساس أن الطرف المستهدف داخل المجتمع يمثل خطرًا قاتلًا، وعنصرًا مهددًا للجماعة، والأمثلة على هذه الإستراتيجية العدوانية لا حصر لها، لكن أسوأ ما تتضمنه هو أن الانفعال العدائي في الغالب ما يتحول إلى ممارسة دموية، قد تصل أحيانًا إلى سعي مباشر لمحو هذا الطرف الذي يمثل للمتطرف عدوًا مزعومًا في إطار تصفيات عرقية، أو حروب أهلية طويلة، كلما راكمت ضحاياها قوة الإستراتيجية الاستعدائية للمتطرف، ومن هنا يصبح من الضرورة الحيلولة دون سقوط المجتمعات في عمليات تصنيف على أساس عرقي، وكل أشكال الإقصاء والوسم الاجتماعيين.
- ثالثًا: إن تشجيع مشاعر الوحدة الوطنية هو ما يمكنه أن يحبط سياسة الاستفراد التي يستعملها المتطرفون لكي يشيعوا مشاعر العداء إزاء جزء من المكونات الثقافية للمجتمع، وبالتالي يوجد هذا التشجيع تماهيا وانصهارًا وطنيًا يصعب معه وجود فجوات تسمح بتسريب مشاعر قاتلة من هذا القبيل.
- رابعًا: لدى المتطرف خوفًا مرضيًا من الآخر المخالف على العموم؛ حيث يبني المتطرف مواقفه على أساس وجود مؤامرة كبرى تحاك ضده، من القريب قبل البعيد، وهذا ما يجعله ينفي صفة المصداقية على كل المصادر، عدا تلك التي يرى أنها مصادرة الموثوقة، وذلك على أساس ثقة عمياء تقابل سوء ظنه المبدئي في مصادر الآخرين، لذا فإن انفعال الخوف في هذه الحالة يولد الكثير من المشاعر الملحقة، وعلى رأسها الوثوقية والارتيابية فيقتسمان روح المتطرف، وتجعلانه يعيش في جُبٍّ مظلم منفصل عن العالم، حتى وإن شارك الناس حياتهم الطبيعية، وذلك لأن الوسائط التي يتخذها لإدراك ما يحيط به، تضفي على وعيه غشاوةً سوداء، تفقده القدرة على أن يرى ما يراه الناس ويشعر بما يحيونه من مشاعر طبيعية حيال الأحداث والوقائع، ما يولد لديه غربة وغرابة، تنتهي بمظاهر التطرف الدموي التقليدية من التكفير والتخوين والتكذيب وتوزيع التهم جزافًا، وغير ذلك من ردود الفعل التي يكون أصلها في ذلك الخوف المرضي، لذا فإن تربية النشء وصغار السن عمومًا على تقبل الغريب والمختلف دون مسبقات عدائية، وبعيدًا عن مشاعر الارتياب والاشتباه، يسمح بتجاوز الشعور الذي يسود في المجتمعات التي تعيش في عزلة بعيدًا عن التفاعل الحضاري مع باقي الشعوب الأخرى، بحيث تسارع إلى قرع طبول الحرب كلما أطل عليها غريب أو جد في حياتها جديد، محاولة بذلك تصفيته دفعًا للخطر الوهمي ، والخوف المرضي الذي يغلف وعيهم.
- ختامًا: إن التداخل بين انفعال الغيرة والعداء والخوف يشكل طيفًا تنتج عنه كل مشاعر التطرف الأخرى، ولهذا بقدر ما نجحنا في تعطيل هذه الانفعالات، بقدر ما سيكون بإمكاننا أن نمنع الانتشار الوبائي للفكر المتطرف خصوصًا لدى صغار السن، لأن التطرف في الأخير هو فساد في العقول والأفكار.