الإعلام المتطرف واستهداف العقول الهشة والجماهير الضعيفة

إن المادة الإعلامية حينما تنمو لوحدها دونما ارتباط بالواقع الفعلي، فهي تتحول إلى هلوسات ونوبات جنون، تستقطب من في روحه استعداد مسبق لهذا النوع من اللوثات المعرفية والحسية، أو أولئك الذين يتصفون بالهشاشة الفكرية والنفسية، هذا عوض أن يكون هذا الإعلام ناقلًا شفافًا لما هو كائن بالفعل، وإخبارًا بما حصل ويحصل في الحقيقة.

هكذا يتحوّل الإعلام السائب إلى مجال حيوي تجد فيه العناصر المتطرفة ضالتها ومبتغاها، يجدون أنفسهم أكثر أمانًا داخل الفقاعات الإعلامية، التي لا تقتضي أي جهد أو إنجاز، سوى التخفي والجلوس الساذج والحاقد خلف الشاشات، والمساهمة في تسفيه عمل الآخرين، واتهامهم بقائمة تُهَمٍ أصبحت بلا معنى بقدر ما استُهلكت داخل المهاترات الإعلامية.

إن شغف المتطرّف بالسجالات داخل القنوات الإعلامية المتنوعة، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، هو نتاج طبيعي للإيديولوجيا التي تتكلس في رؤوسهم منذ بدايات القرن العشرين، الذي جعل منهم خلطة نفسية غريبة، بين خطاب الحنين، وخيالات المظلومية، والانتماء الوهمي إلى عوالم لا توجد إلا في رؤوسهم، وبين خطاب الكراهية والاتهام الذي لا يسلم منه أحد، حتى أولئك الذين يشاركونهم نفس الأوهام، فالمادة الإعلامية المتطرفة مادة وبائية، لأن المتطرف ضحية هوس مرضي بأن الكل يناصبه العداء، ويتربص به، وأن مؤامرة عالمية تخوض معه حربًا ضروسًا، لا يراها إلا هو و”الغارقون في التطرف” من أمثاله، أو بالأحرى الغارقون في الإيديولوجية، والمذهبيات العصبية الضيقة.

وهذه الطبيعة العدائية، وتلك الخطابة الهجومية التي ما انفك المتطرفون يفتعلونها، ولو في عمق الهزيمة والتشرذم وفقدان المصداقية، تجعلهم يقدمون فرجة إعلامية تناسب حماسة المتلقي الانفعالي، الذي يعتبر الضجيج الصوتي، والجرأة الجامحة، والتبسيطية الضحلة، والإدهاش الحكائي، وغرائبيات الأخبار والأسرار، والادعاء بالقدرة على الحصول على المعلومات الحصرية، سمات مثيرة للجاذبية والتعاطف والانتشار؛ وهو ما يجعل المتطرفين قادرين على تصيد مثل هذه العقول الهشة، إما لأنها تفتقد الكفاءة، فهي لا تتبين ولا تتحقق مما يقال لها، أو أنها لكسلها، لا تبذل جهدًا لكي تُخضع ما تتناقله شبكات التواصل من معلومات مُضللة، وأخبار زائفة للنقد والتمحيص.

وتلك الوسوم المرضية تصاحب إعلام المتطرفين عبر كل أطيافه ودرجاته، فلا يمكن أن تجد مُنتجًا مما يُقدم لديهم يخلو من الرغبة في الاشتباك مع الآخرين، وإدانتهم، وشيطنتهم، وتخوينهم، ويصل الأمر إلى التكفير، والمفاخرة بإراقة الدماء وإهدارها، ولعل هذا ما تطالعنا به بعض منشورات عُتاتهم، وهم يروجون لعمليات القتل الوحشي، وإحراق المحاصيل، ومهاجمة الآمنين، كما لو أنها منجزات عظمى، عليهم أن يعلنوها على الأشهاد، دليلاً على تفوقهم، وانتصاراتهم المزعومة، فلا يتهيبون من عبارات شائهة أخلاقًا ودينًا وإنسانية، وهم يكتبون ” لقد أنعم الله علينا بقتل كذا من المرتدين، أو بإحراق مزرعة …” وغير ذلك من الشناعات التي لا يفاخر بها إلا من فقد كل مقومات الأحاسيس الإنسانية، فكيف بالمشاعر الدينية، وإذا كانت إصدارات التنظيمات المتطرفة ومنها تنظيمي “داعش” و”القاعدة” الإرهابيين تتقطر بمثل هذه اللغة الدموية البشعة، فهذا فقط لأنها بلغت درجة من الجنون الدموي، الذي جعلها لا تكلف نفسها مداراة سوءاتها الأخلاقية والدينية، لكن هذا لا يعني أن التطرف الناعم الذي ينفث سمومه بين جمهور الانفعاليين، هو أقل خطرًا من الإعلام الإرهابي، بل لعله الأبعد تأثيرًا، والأعمق أثرًا، ذلك لأن الإعلام الإرهابي يكشف عن وجهه الدموي المخيف، بينما يحمل الإعلام المتطرف نفس الرسائل، لكنه يمررها عبر أقنعة كثيرة، ولهذا فهو يصل إلى متابعين انفعاليين، يقعون ضحية رسائله بفعل حسن نيتهم، وضعف قدراتهم النقدية، ولهذا من المهم جدًا الحذر من مثل هذه المواد الإعلامية التي تُشيع على الخصوص عبر شبكات التواصل الاجتماعي خطاب التطرف، وكل المشاعر المرتبطة به، من كراهية وعنصرية وانغلاق، وبهذا المعنى ليس من الضرورة أن يكون الإعلام المتطرف دمويًا بشكل صريح، بل يكفي أن يخلق مزاجًا قابلًا للتطرف بين متلقيه، لكي يشتغل في نفس خندق الإرهابيين، من خلال إشاعته النزاعات التالية:

  • أولًا، نزعة التسفيه، التي تقوم على عداء شبه مبدئي للعمل والمبادرة والتطوير، ولهذا فهي نزعة تنمو على شكلٍ طُفَيْلِيٍّ على هامش أعمال الآخرين، تترصد لكل جهودهم ومنجزاتهم، متصيدة لأي ثغرة صغيرة، لتنخرط في سياسة التشكيك، وتهويل الصعوبات، وزرع الإحباط في الأنفس، وهي بهذا تعفي نفسها من القيام بالعمل، وتكرس ثقافة الكسل، لكن تحت أسماء أخرى لا تكشف جهلهم ونقصهم.
  • ثانيًا، نزعة التبسيطية، وهي في الواقع ما يعتمدونه في سياستهم التسفهية، إذ تراهم يخوضون في أعقد المباحثات العملية، دون دراية بما يقولون ليُضفون على أنفسهم أمام أتباعهم طابعًا من العِلْمَوِيَّةِ الزائفة التي يخادعون بها الناس، إذ يقدّمون أنفسهم كأهلِ علمٍ ومعرفةٍ، وهم في الواقع إنما يروجون للجهل بأصنافه المتعددة، وما علينا إلا أن نتفحّص مراجعهم في مجال التاريخ والعلم والفكر عمومًا، لكي نرى بوضوح مدى الضحالة التي يفهمون بها التاريخ والسياسة والأديان …إلخ، ومدى فداحة الأخطاء الكثيرة التي ُيضمنونها موادهم الرائجة إعلاميًا.
  • ثالثًا، النزعة الخصامية، وهي كما رأينا تظهر كطبع في العقليات المتطرفة، لهذا فهم يكسبون الكثير، حينما يورطون الآخرين في الدخول معهم داخل معترك المهاترات الخصامية، نظرًا لأنهم يفتقدون مقومات المبادرات، والكفاءة الاقتراحية، وهذا ما يجعل موادهم الإعلامية باهتة، إلى أن يجدوا فرصة لإشعال فتنة إعلامية، تساعدهم في الانخراط في مشهد من الصراخ، والبكائيات والمظلوميات، وحينئذ لا يصبح للأفكار أي قيمة، بل تُختزل كل العملية الإعلامية في مظاهر الانفعالات، التي يتدسسون من خلالها إلى الجماهير الهشة، مما يسمح لهم بسرقة الأضواء لكي تتوجه نحوهم، فتخرجهم من التجاهل الذي يحاصرهم، إلى القليل من الحضور القبيح، في إطار حروبهم الإعلامية المفتعلة.
  • رابعًا، النزعة التآمرية، لا أحد يمكنه نكران أن منطق التطرف كلِّهِ مَثاره ومَعاده إلى نظرية المؤامرة، فلا شيء بالنسبة لهذا الإعلام، إلا وله صلة بخيوط مخطط دولي لا يعرفه الجميع، وهذا الشغف بنظرية المؤامرة، هو قاسم مشترك بين كل متطرفي العالم، فهي نزعة تخلق نوعًا من الهوس بالأسرار؛ إذ أنه عوض المحافظة على الانضباط المنهجي الموضوعي في قراءة مجريات العالم، وبالبحث عن الأسباب الواقعية خلف حدوث ما يحدث، يميل الإعلام المتطرف إلى تعويض السبب الموضوعي، بالسر الخفي، فهناك دائمًا قصة سرية وراء الأحداث، واتفاقيات وتوافقات تتم في عالم من الصمت والتكتم، ودائمًا ما يظهر إعلام المتطرفين أنه على معرفة فريدة بمثل هذه الأسرار، وبالتالي فهو وحده يملك صكوك الاتهام والبراءة دون غيره من المتابعين. 
  • ختامًا، إن كل إعلام يخاصم المشاريع الإصلاحية الكبرى، ويعادي روح الإبداع والمبادرة، بمنطق الكراهية والاتهام الذي لا يولي أي أهمية للتحليل والتمحيص، معوضًا ذلك بإشاعة التسفيه والإحباط، وترويج المعرفة الضحلة التبسيطية، في سبيل خلق جمهور انفعالي شغوف بقصص المؤامرات وأسرارها، ويدعو إلى كل ما من شأنه تدمير الحياة، يُعتبر إعلامًا متطرفًا، أو على الأقل خادمًا لمشاريع التطرف بمختلف أشكالها، ومن هنا، تأتي الضرورة لدعم الإعلام الذي يبث المعرفة، ويدفع الناس للانخراط في التفكير، ويحافظ على الروح الإيجابية للمجتمعات، بحيث يخلق مجالًا للنقاش القائم على الإيمان بالتعددية الفكرية، والانفتاح الحضاري، والاعتدال الأخلاقي، لأن إعلامًا كهذا هو كفيل بإنقاذ الناس من خطط دُعاة التطرف، التي تُنصب لهم في الكثير من المواد الإعلامية السمعية والبصرية.