الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تتضخم ذاتية المتطرّف فيتفاخم ويتعاظم ويجعل من نفسه مركزًا للعالم، من عنده تستقى الحقائق، فيغلق هذا التَوَرُّمُ الفكري المرضي أفقه المعرفي، بحيث لا يرى إلا نفسه وانعكاسها على العالم، فتراه لذلك السبب يستسهل ما يستصعبه الناس، ويتطاول على ما يتهيّب أهل الاختصاص على الخوض فيه، إلا بميزان وضوابط العلم، في مقابل ذلك يتحوّل المتطرّف بعد متابعة مقطع مرئي على شبكات التواصل الاجتماعي، أو دردشة مذهبيّة متعصبة، إلى عالِمٍ يفتي في أمور تَهُمُ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، ويعوّض هذا الاستسهال الأهوج عن تهافته بتلك اللغة المشحونة بعبارات مسكوكة مسمومة، يعبّر بها عن انفعالاته واصطدامات أهوائه، دونما اهتمام بتداعيات استدلالاته المتسرعة المتهاوية، التي يعتقد أنها الحق، وهي في الواقع مجرد تجسيد للوقوع في قبضة الفكرالانفعالي الذي يظن أن علو الصراخ والتصديق والتسليم التنظيمي كفيلة بأن تعوّض ضعف التفكير.

هذا الجانب الغير عقلاني في خطاب المتطرفين، يجعله ذا طبيعة تفقده حسه الاستدلالي المنطقي، ولهذا يصعب جدًا الحوار مع من ركب أهواءه وهو على ثقة بأن أفكاره يجب   أن يتلقفها الناس بالاحتفاء والاقتناع والاتباع، فهو في صورته هذه كمن فقد عقله وهو يعتقد أنه يركب جوادًا، فيلعب في الظاهر دور الفروسية، لكنه يثير الشفقة والسخرية لدى كل من يتابعه بعقلٍ وفكر سليم، وكم يستعصي على شخص كهذا أن يتفطن لمدى الجهالة التي يعيش داخلها، حينما يسمى الأشياء بغير أسمائها، ويفتعل ما لا طاقة له به، جهدًا وعلمًا ومعرفةً وأخلاقًا.

فهو يجعل من ذوقه فيصلًا في كل شيء، في الحلال والحرام، والجائز والمحظور، والممكن والمستحيل، والفاضل والرذيل، والخير والشر، لكنه طبعًا لا يُصَرِّحُ بذلك على نحو واضحٍ ومباشرٍ، بل تجده يتخفى خلف النصوص الدينية يجتزئ منها ما بدا له، ويختار منها ما يراه مناسبًا لموقفه، فيصبح هواه وذائقته التعبير النهائي القاطع والوحيد على ما تتضمنه النصوص الدينية من أوامر ونواهي، وبهذا الاحتيال تجده يبرّر أبشع الأفعال بتأويل النصوص الدينية دون أن يطرف له جفن، وما علينا إلا أن نلقي نظرة على رسائل ومصنفات منظري التكفير والتوحش والدموية من تنظيمات وجماعات مثل (داعش والقاعدة والإخوان المسلمون) -نموذجًا-، لكي نرى مدى صفاقة الحس المتطرف، وهو يستغل الدين لتمرير تطلعاته الإرهابية، فتصبح السرقة سلبًا وفيءً، والاغتصاب تسريًا، والقتل والبغي جهادًا، وتدمير الأوطان معالجة وصيانة، وهم في سطوهم الديني الانتهازي هذا لا يتورعون عن استخدام نفس النصوص لتصفية الحسابات الدموية مع بعضهم البعض، وكذلك الحال بالفصائل الأخرى التي لا يعوزها التأويل الفاسد للنصوص لتحز رؤوس خوارج الخوارج باسم قراءة وتأويل يحرص مهندسوها على تفعيلها كل حين ليتواءم ذلك مع ما في صدورهم المريضة، لهذا لا يصح أن نترك زيف اللغة “الدينية” للمتطرفين تخفي عنّا طبيعتهم الإجرامية ودسائسهم وسمومهم.

ومن ضمن الدسائس الشهيرة التي يلعبها المتطرفون في هوسهم المرضي بالذات وبالآخر، تسمية ما لا يناسب أذواقهم المريضة “مُنكرا” وما يخدم مصالحهم وخططهم التخريبية والاستقطابية “معروفا”، وبهذا يصبح من الواجب على كل مسلم أن يقبل بخططهم على أساس أنها مجرد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والحال أن المعروف عند بعضهم هو المنكر عند بعضهم الآخر، فما يكاد تابعٌ لتنظيمٍ أن يتخذ مبادرة على أساس أنها معروف يثاب فاعله أجرًا، حتى ينقض عليه غريمه التنظيمي باسم نفس المنطق لكي يغيّر هذا المنكر الذي بفعل التضليل والنفاق سُمي معروفًا، وتستمر اللعبة بين قاتل ومقتول، ومتطرف وآخر بشكل هو أقرب ما يكون إلى كوميديا سوداء، تبث في النفس كل مشاعر الاشمئزاز والإدانة، وتدفع إلى التساؤل كيف يمكن للإنسان أن يسقط في هذا المستوى من الجهالة الفكرية والتبلد العاطفي، إذ يكفي أن يُمعن المتطرف قليلًا في أحواله، ليفهم أن شعاره حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مشروع هرج ومرج وفوضى، بكل بساطة لأنه تحوّل بين المتطرفين أنفسهم رغم قلة عددهم إلى مدعاة للاقتتال والتناحر، حيث يقتل المتطرف صاحبه الذي شاركه بالأمس نفس الترهات والأباطيل، التي ألبسوها لباسًا دينيًا كي يخفوا من خلاله سَوءَاتِهم الأخلاقية، وبعد كل تلك الدماء المسفوكة تجدهم يرددون في خطبهم أن المنكر واضح وأن المعروف واضح، وأن مثارالأمر هو الفعل وليس المعرفة، والتنفيذ وليس الحوار والتريث. إن سطحية المتطرف هذه تجعله يرى البساطة حيث ينبغي استحضار الصعوبة، والقول الواحد حيث ينبغي استحضار التعدّد والاختلاف، فهو لا يستطع نظرًا لتمركزه على ذاته أن يتعقل أمورًا هي في حساب من يعرف حق قدره من الواضحات، وفي ذلك جوانب عدة نطرحها ومن بينها:  

  • أولًا، علينا أن نقبل بأن العالم قد يضم أشياء لا تناسب أذواقنا، ولذلك فليس من النضج الاعتقاد بأنه من الضروري إخلاء العالم من كل ما يجرح حساسياتنا الخاصة، فقد يناسب البعض أجواء المشاركة والاحتفال والاحتفاء بالحياة على نحو جماعي، بينما قد يميل البعض إلى الهدوء والتفرد والانعزال، وتبنِّي نمطٍ من الحياة الخاصة التي لا مجال فيها لمشاركة الأفراح والأتراح، فهل سيكون على المدن أن تُلزم نفسها بما يميل له من هم في القرى، أو يُلزم من هم في القرى أنفسهم بما عليه أهل المدن؟ إذن من الواضح في هذه الحالة أن الأصل هو السعي أولًا إلى وضع ضوابط عامة ومعايير تنظيمية تسمح بتدبير الاختلاف، ثم سيكون أعز ما يطلب في هذه الحالة أن نكون قادرين في حدود تلك الضوابط أن نفسح لكل طرف أن يعيش على المنوال الذي يناسبه، دون أن يتحوّل إلى عائق أمام الآخر في تحقيق الحياة الموائمة له حسب تقديره، وهنا إذا ما سارع أحد الطرفين إلى وصم ما يختاره الآخر بالمنكر، فإن مثل هذا الوئام المدني يصبح مستحيلًا، وبالتالي فإن كل طرف سيتربّص بالطرف الآخر كلما سنحت الفرصة ومال ميزان القوة لكي ينكّل به ويروع حياته ويفسدها، وبهذا تصبح الحياة الاجتماعية قابلة للصراع والمواجهة والعداء.
  • ثانيًا، لا يمكن أن نرهن حياة الآخرين وفقًا لأذواقنا الشخصية، ولهذا من الضروري أن تناط مهمة الفصل في اختلاف الأذواق إلى مؤسسات الدولة التي تملك نظامًا صارمًا وشاملًا ومفصلًا من القوانين والإجراءات ذات الطابع الموضوعي الذي يتجاوز ميول هذا الطرف أو ذاك، ويتجلّى في كفاءتها في إدارة هذه المهمة، والفصل في كل ما من شأنه أن يمثّل أزمة داخل المجتمع، وهنا لا تُستعمل كلمة المنكر أو المعروف بدلالة ذوقية أو عاطفية، بل تأخذ شكلًا قانونيًا يمثّل المرجع الصارم في حل الاشتباكات الخصامية، دون أن يكون لأحد الحق في أن يتجاوز هذه المؤسسات ليصبح هو نفسه مركزًا تشريعيًا مستقلًا، يفتي في الحلال والحرام والمنكر والمعروف، لأن فعلًا كهذا بالإضافة إلى طابعه الأناني الواضح، فهو يفتح أبواب الفتنة التي لا يعرف مدى خطرها وقسوتها إلا من وقع في متاهاتها المعقدة دون أن يتمكن من الخروج منها، لأن فقدان المرجع المؤسساتي في أي بلد يجعلها عُرضة لأن تتحول إلى حلبة خصام شخصي تخلق العداوة والفرقة بين المواطنين والمقيمين على حدٍ سواء، إلى غاية أن ينفرط رابط المودة والألفة بينهم دونما رجعة، من هنا علينا ألا نتضخم كأفراد بحيث نعتقد أن مهمة المؤسسات هي تحقيق رغباتنا الضيقة، بل من المفترض ألا نتجاوز في مطالبنا أن يكون لكل فرد الحق في أن يعيش حسب تصوراته الخاصة في حياته الشخصية، لكن بشرط ألا يتدخل أو يعتدي على الحياة الشخصية للآخرين، وأما حدود ما هو قانوني أو غير قانوني فهو من اختصاص مؤسسات الدولة القانونية التي لا يصح لأحد أن يزاحمها فيه.
  • ختامًا، إن أخطر ما يمكن أن يتربص باستقرار المجتمعات ووئامها الانزلاق نحو إضفاء الطابع المقدس على أذواقنا الشخصية، وتسميتها بأسماء دينية مما يجعلنا نحاول إرغام الناس على الخضوع لها، والدخول معهم في صراع لأجل محو وطمس معالم كل من يخالفنا الذوق والاختيار والميول، ويحاول أن يعيش حسب ما يراه مناسبا له، دون أن يؤذي نفسه أو يؤذي أحدًا أو يسمح لأحد أن يؤذيه، هذا الحس المتطرف لأجل الخلاف حول مسائل تتعلق بحياة الناس، هو في الواقع الخطر الفعلي شرعًا وقانونًا وأخلاقًا، وهو ما يجعل البعض يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف بغير وجه حق وافتئات على منظومة المجتمع القانونية.