ينقسم الزمان لدى الشعوب والحضارات إلى قسمين: واحد يرتبط بالحياة اليومية الخاضعة للضغوطات في صورتها المادية الصِرفة، وزمنٌ آخر يُنظر إليه على ضوء مشاعر القداسة الدينية، يكمن دوره في تأطير الحياة الروحانية لهذه الشعوب، وعلى إيقاعه الزمني تنتظم ممارساتها الطقوسية الدينية، التي توقِف للحظة الوتيرة الاعتيادية للحياة، في سبيل توفير فرصة أكبر للشحن الروحي للأفراد، وهو ما يجري إما يوميًا تبعًا للتحولات الزمانية لليل والنهار، أو أسبوعيًا بتخصيص يومٍ بعينه لطقس عبادة يغلب عليه الطابع الاجتماعي والتجمعات المحلية، أو سنويًا يتعلق بشهر خاص، وفي الغالب يربط ذاكرة الشعوب بتاريخها الروحي، ولهذا فهو يؤثر بشكلٍ أكبر وأعمق على وتيرة الحياة اليومية لأتباع ديانة معينة، وأخيرًا هناك فريضة واحدة تحدث في حياة الإنسان مرة في العمر، ويعتبر الزمان المخصوص لها أكثر الأزمنة روحانية وطقوسية، وهكذا – وبالنسبة لكل الشعوب – تنسجم وتيرة الحياة اليومية مع مناسبات دينية تقتطعُ من حياتهم فترات محددة، لأجل ممارسة التطهير الروحي.
ولا شك أن هذه البنية الطقوسية السابقة الذكر، توجد في كل الأديان على وجه التقريب، وهي من حيث المبدأ تراهن جميعها على انتشال الإنسان من حياته الطبيعية الخالصة، لكي تشبع حاجياته الروحانية من حيث هو إنسان يملك مقومات أخرى تُشكّل هويته الروحية، التي تتجاوز المكونات المادية المشتركة مع باقي الكائنات الحية الأخرى. وهذه الحاجيات هي في الواقع متنفس حقيقي للإنسان، يخلّصه إشباعها من توتراته اليومية، ويهذّب طباعه بقدر ما يبث في نفسه من طاقة روحية راقية، لهذا يصبح الناس أثناء ممارسة طقوسهم الدينية، أكثر رُقيًا على المستوى الأخلاقي، وأعلى كعبًا على مستوى الحس الإنساني، فيما يخص التراحم، والتعاطف، والتخلّص من تلك الرذائل التي قد توقعهم فيها وتيرة حياتهم اليومية، القائمة على الصراع والتنافس والتغالب حول الامتيازات الاجتماعية المختلفة، لهذا إن انخراط الناس في عبادات تجعلهم في حالة من المساواة المطلقة أمام خالقهم، وتشجعهم على التلاحم الروحي عبر تكرارهم لنفس الحركات، والتزامهم بذات المحظورات والمحذورات، واحترامهم لتوقيت موحد لدخولهم في الطقس الديني ولخروجهم منه، كل ذلك يُطهر الروح من مؤثرات الأنانية والفردانية المطلقتين، التي يكون الإنسان عُرضة لها بفعل إيقاع حياته اليومية.
من هنا، يمكن القول إن المناسبات الدينية الكبرى لا تتضمن أي إدانة لحياة الناس اليومية، بل ولا تعطلها، إلا بالقدر الذي لا يؤثر عليها بشكل سلبي، ذلك لأن العبادات بالنسبة للأديان هي نعمة وليست عقابًا، غير أن الفكر المتطرف لا يستطيع أن يُدرك هذه الأبعاد الإنسانية والروحانية العميقة في مثل هذه المناسبات، بل إنه يسقط عليها حسّه الكئيب، ويجعلها فرصة مواتية لكي يرفع شعاراته الكارهة للحياة، وللسعادة، وهذا ما يمكن للمتابع للنشاط على شبكات التواصل الاجتماعي أن يلاحظه، أن المتطرف يعلم بأن الناس هم في حالة من الشحن الروحي الكبير، وهذا ما يحاول استغلاله لكي يمرّر مقولاته المتطرفة والمرضية، عبر إدانته للواقع باسم شعارات الموت والفناء والقتال والصراع الكوني والعدمي بين قوى الخير والشر، حيث تُمثّل جماعته الطرف الأول، بينما يُحشر كل الناس في جبهة الشر التي ينبغي محاربتها وتدميرها. هذه النبرة المفتقدة للطابع الروحاني الجليل المفترض في مثل هذه المناسبات، هي ما يُفسد في الغالب على الناس طمأنينتهم الروحية، بل كثيرًا ما سحب المتطرفون مناسبات باذخة في سموها الروحي نحو مستنقعات الدم والقتل والدمار، كل هذا وهم يرفعون عقائدهم بشعارات دينية تخون جوهر الدين، وتدعو لما جاء هذا الدين أصلًا لمحاربته، من قبيل قيم الكراهية، والحقد، والثأر، والعدوان، والعنصرية، والاعتداء على الحرمات الإنسانية. ولأجل الاستحواذ على هذه الطاقة الروحية التي تتشكّل في مناسبات من هذا القبيل، لذا يعتمد الفكر المتطرف إلى تسويق مفاهيم متعددة، من ضمنها:
- أولًا: النظر إلى الطقوس الدينية والعبادات بمختلف صورها كدعوة للاستخفاف بحياة الناس، وتقديم الجانب الروحانيِّ بأسبقية مُطلقة على ما هو مادي، إلى درجة أن يكون ثمن الروحانية – في نظر الفكر المتطرف – هو التخلي التام عن الحياة، وتصوير ذلك على أنه قداسة فعليّة، وصولًا إلى نشر الفوضى والتدمير، ولهذا تكثر الخطابات البئيسة للمتطرفين في مثل هذه المناسبات الروحانية، وهي تتحدث عن الموت، وعن النهايات الكارثية، وغير ذلك من خطابات التَّيْئِيسِ والتَّبئيس، لكن المتطرف نفسهُ لا يفهم بأن هذه الطقوس تربط الحياة اليومية للناس لبعض الوقت، لكي تشحنهم أخلاقيًا كي يعودوا لحياتهم بكل عزم وحرص على الحياة الفاضلة، ولعل هذا ما جعل الديانات بتنوعها تُوقف الطقوس الدينية نفسها حينما تحدث دواعي معينة تجعل حياة الناس في خطر. وبهذا، إن العبادات ليست وسيلة للقطع مع الحياة أو التنافر والتنافي معها، بل على العكس، وهذا ما لا يدركه العقل المتطرف المحجور في إيديولوجياته الضيقة، فهي إعداد لحياة أكثر سلامًا وتعايشًا وإنسانية.
- ثانيًا: يُحاول المتطرف أن يروّج لفكرة هدفها إضعاف الحس الوطني للناس، حيث يروّج لخطاب أُممي متعالٍ عن الخصوصيات المحلية للشعوب، فهو يعتبر أن وحدة الطقوس الدينية، في شكلها ومواقيتها تعبير عن هذه الهوية المنسيّة من الناس، والتي ينبغي أن تُلغي أي هويّة سواها، لكن هذا المتطرف يجهل بأن الشعوب في العالم كله يمكن أن تتشارك مبادئ كونية، وطقوس دينية موحدة وواحدة، دونما الحاجة إلى التنكر لهويتها الوطنية الخاصة، وهذا ما يتجلى في أن كل شعب يُطبّع الطقس الديني ببصمته الثقافية، فرغم أن العبادة هي نفسها، والغايات الروحية هي ذاتها، إلا أن الشكل الخارجي لهذه العبادة، ينطبع بالخصوصيات المحلية؛ سواء من جهة اللبس، أو العمارة، أو عبارات التهنئة المتبادلة، أو الأطعمة التي توضع على الموائد، أو طبيعة مقامات التراتيل التي تُقدّم بها نفس النصوص الدينية عبر العالم الواسع بالنسبة للدين الواحد، وهذا يُفيد أن هوس المتطرفين بإدانة الروح الوطنية باسم هوية عابرة للثقافات، يصطدم بمثال مُضاد واضح، وهو أن الناس تمارس العبادات لكن كلٌ حسب هويته الوطنية الخاصة.
- ثالثًا: إن المناسبات الدينية، في الغالب ما تكون فرصة للشعوب لممارسة قيمة التسامح الديني، وهذا ما يتجلى في عبارات التهنئة بين أتباع الديانات المختلفة، وهو أمر يستفز حد السُعار الصدر الضيق للمتطرفين، الذي هو نتاج فكر ضيق ومتشنّج، فهم يُقدّمون هذه المناسبات للتحريض على المختلفين دينيًا، ولهذا يكثر لدى المتطرفين في مواقيت من هذا القبيل الميل للسخرية من الطقوس الدينية الأخرى، وللتبديع والتشنيع والتفسيق إزاء كل من يُمارس شعائره على نحو مختلف، لكنه يصطدم في الغالب بأن الناس تصبح أكثر ميلًا لنبذ المشاعر المسيئة، فهم يعتبرون أن طهارتهم الروحية في مثل هذه المناسبات، ترفض الانفعالات الفوضوية التي يسعى المتطرفون إلى جعلها أساسًا لاستكمال الهوية الدينية العابرة للقارات، التي هي في الواقع تشوّه مرضي يُسقطه المتطرف على الدين.
- ختامًا: في كل مرة تجتمع قلوب الشعوب حول مناسبة دينية كبرى، تكون الإنسانية جمعاء أمام لحظة رُقي أخلاقي وروحاني استثنائي، فمثل هذه المواقيت ذات البُعد الروحاني تُعلن اختلاج قلوب الكثير من الناس عبر العالم بوهج روحي قوي، وبتشبّع عميق بالقيم الأخلاقية العالية، وهذا ما يُوجد هالة روحية تُحيط في مثل هذه الأزمنة بحياة الناس اليومية، لتحميهم من الانزلاق نحو نقائص الرذائل بمختلف ضروبها، ولهذا من المهم جدًا ألا نسمح للفكر المتطرف بأن يخترق هذه السماء الروحانية الصافية، وذلك بجعل قيم الاعتدال والتسامح والتعايش ضابطًا للحماسة الروحية التي يسعى البعض إلى التلاعب بها، وإلى توجيهها بعيدًا عن روح العبادات الأصيلة.