من الخطأ والخطر القول بأن التطرف والإرهاب هما نتاج لأمراض واضطرابات نفسية، هكذا على الإطلاق ودون أدنى تمييز؛ وإذا ما اعتقدنا أن التطرف بأشكاله المتعددة هو مجرد عرَضٍ من أعراض المرض النفسي فذلك طرحٌ خاطئ، لأنه سيجعلنا نتصور أننا إذا صادفنا هذه الظاهرة فإنه من الضروري أن يلازمها حالة مرضية على المستوى النفسي، وهذا الأمر ليس صحيحًا على إطلاقه في المستوى الواقعي، فالأغلبية العظمى من المرضى النفسيين لا علاقة لهم بالاختيارات المتطرفة أو بالتنظيمات الإرهابية، وتلك الرؤية هي رؤية خطيرة لأنها قد تعزز فكرة أن السقوط في شبكات التطرف والإرهاب دائمًا ما يُصاحب بسلوكيات مرضية مثيرة للانتباه، وهو ما قد يجعلنا نأمن الحالات السوية على المستوى النفسي، ويضع مظلة تُخفي خلفها من يخطط ويبث الخطاب المتطرف والأجندات الإرهابية، كما أنه قد يدفع عن أولئك الإرهابيين مسؤوليتهم القانونية والأخلاقية حيال ما يقترفونه من جرائم استنادًا لمرضهم النفسي، ومثل هذا الحكم يفتقد إلى اللياقة تجاه المرضى النفسيين الذين ليسوا بأي حال مذنبين، بل هم في وضع لا أحد بمنأى عنه، لأن المرض النفسي على غرار باقي الأمراض الأخرى، يظل إمكانية واردة بالنسبة لأي إنسان.
لكن حتى وإن انعدمت العلاقة السببية بين المرض النفسي وبين التطرف والإرهاب، فهذا لا يمنع إمكانية رصد الأمراض النفسية من حيث هي عوامل هشاشة أولية، لا تؤدي بالضرورة إلى الوقوع في مثل هذه الاختيارات العنيفة، لكنها قد تجعل الحوافز لتبني هكذا اختيارات واردة بشكل أكبر، بحيث يُمكن أن تُستعمَل بعض أشكال الانتماءات كنوع من التفريغ النفسي لتوترات تلك الأزمات، أو تحقيق إشباع وهمي لبعض المشاعر المرضية، التي يمكن أن تنتقل بفعل المحتوى المتطرف من مستوى الخيال إلى محاولة تحقيقها وتجسيدها على مستوى الواقع، ومن هنا فالمرض النفسي ذاته لا يمكن أبدًا أن يُفسر التطرف، لكن التطرف يُمكنه أن يَستغل هشاشة المرض النفسي.
ويمكن إرجاع الهشاشة النفسية التي يمكن أن تستغلها التنظيمات المتطرفة إلى قائمة طويلة من الأعراض العامة، نشير إلى بعضها دون تسمية الأمراض نفسها، رفعًا لأي ربط تلقائي بين هذه الأمراض والتطرف أو الإرهاب، وهي كما يلي:
- أولًا: من أعراض بعض الأمراض النفسية الاستغراق في تفاصيل جزئية، وهوس الاهتمام بها دونما قدرة على تقدير ارتباطها بعناصر شاملة أخرى، وذلك الغرق في الهوس ببعض المجالات، يُمكنه أن يدفع ببعض الاضطرابات النفسية إلى أن تُوقع المصاب بها نحو الانجذاب ببعض عناصر الفعل الإرهابي بغض النظر عن الخلفيات الإيديولوجية والتنظيمية، فمثلًا قد يدفع الهوس بصناعة المتفجرات والتفخيخ، ولو على المستوى الاستيهامي إلى النظر بإعجاب إلى العمليات الدموية للإرهابيين، دون ربطها بعناصرها التبريرية، ولا تقدير نتائجها وتوابعها، وهذا ما قد يدفع البعض إلى تنمية هذا الفضول إلى درجاته القصوى، إلى أن يُصبح هدفًا سهلًا للاستقطاب الانتحاري، خصوصًا أن مثل هذه الحالات تتميز نظرًا لاستغراقها المرضي فيما تهتم به، بنوع من العبقرية في ضبط كل تفاصيل المجال المعني، مع قصور كبير على المستوى المعرفي والسلوكي في المجالات الأخرى، وهكذا قد تتحول مواهب بريئة في الأصل إلى أدوات إجرامية حينما تقع تحت توجيه التنظيمات، ولعل ما يؤكد ذلك ما آلت إليه بعض المواهب في مجال البرمجة والشبكات، إلى ممارسة القرصنة الرقمية والاختراق كوسيلة لصالح الجماعات المتطرفة.
- ثانيًا: يُعاني بعض المرضى النفسيين من عدم القدرة على الاندماج الاجتماعي، فهم لا يطمئنون إلا داخل مجال حياة ضيق، تُرتب فيه كل الأشياء والحركات بكيفية طقوسية، تمنع حدوث أي طارئ، وإذا حدث ذلك فإن المصاب بهذا الاضطراب يشعر بموجة من القلق المرضي، وفي هذه الحالة يجد في العالم الرقمي مهربًا من العالم الواقعي، باعتبار أن المُبحر على الشبكة يختار بشكل طوعي المحتويات والمكونات التي يتعاطى معها، وهذا ما يجعل مثل هذه الحالات ذات قابلية للإدمان الرقمي، مما يوفر فرصًا أكبر للدخول في حالة تماس واحتكاك مع مواقع متطرفة، ومن ثمة بناء علاقات افتراضية مع المتطرفين الذين يعملون على تجنيد الأفراد عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ولأن الحياة التنظيمية تتصف بصرامة في تنظيم الأفعال اليومية، وترتيب طقوسي للمواقع وللأفراد، فإن هذا الجانب يكون مُغريًا بالنسبة لمن يعانون من هذا الاضطراب، حيث تُصبح الحياة التنظيمية بطابعها مُهدئًا زائفًا للقلق، بل إن طبيعة الخطاب الإرهابي التي لا تسمح بمناطق رمادية في تقسيمه للعالم وتفسير الأحداث، هي عامل يؤثر على المحفزات النفسية التي يُمكن أن تُستغل لكي تخلق حالة استلاب مطلق بين الفرد الذي يُعاني من هذه الهشاشة، وبين التنظيم المتطرف الذي يُعفيه في العادة من أن يفكر أو يقرر لنفسه، وهو ما يحوله إلى رهينة طوعية لديهم.
- ثالثًا: إن حالات الكآبة العميقة التي قد تُصيب البعض بفعل رضوض نفسية ناجمة عن أحداث وظروف مؤلمة تمس بالقيمة الذاتية للشخص وبطبيعة تقديره لنفسه، يُمكن أن تساهم في حدوث اهتزاز خطير في صورة الذات لدى الفرد، وشعور مستمر بالذنب وإحساس بالتقصير، وهو ما قد ينتهي بالبحث عن وسائل للمعاقبة الذاتية والتكفير عن ما يشعر به الفرد من تأنيب، وهو مايستغله المتطرفون من خلال تعميق وتكريس خطابهم الانتحاري كنوع من التطهير أو الكفارة، بالإضافة إلى استغلال محدودية الشغف تجاه الحياة لدى هذه الفئة المرضية الذي يؤدي إلى النظر للموت كحل تحريري من أزمة الكآبة، خصوصًا حينما يُقدم للشخص الذي يعاني من الأزمة النفسية على أساس أنه نهاية مطلقة وسريعة للألم، وهكذا يتحول التصور الكارثي للعالم الذي تُروج له كل الأطياف الإرهابية، هو الأكثر تناسبًا مع سوداوية المصاب بالكآبة المزمنة، بينما تُصبح مظاهر السعادة والرضا عن النفس عاملًا استفزازيًا يُحفز لديه ردود فعل دفاعية وتدميرية.
- ختامًا: إن قائمة أشكال الهشاشة النفسية القابلة للاستغلال من التنظيمات المتطرفة طويلة وبالغة التعقيد، لذا من الضرورة حماية المجتمع من مخاطر الأمراض والاضطرابات النفسية، وأخذها مأخذ جد فيما يتعلق بالدعم والتأطير والمتابعة، وعلى الخصوص الانتباه جيدًا للمواد الرقمية التي يتعاطاها الأفراد المصابون على مستوى تفاعلاتهم الافتراضية، لكن دون أن يعني ذلك وصمَ المضطرب نفسيًا بأي شكل من الأشكال بصفة التطرف، وإنما الحرص على تقديم المساعدة لأي شخص يحتاجها منهم، خصوصًا إذا صدرت عنه مؤشرات اهتمام بالمواد المتطرفة، وعدم تركه وحيدًا أمام الآلة الجهنمية للاستقطاب التي تعتمدها التنظيمات المتطرفة في استغلال الفئات الهشة.