إن قوام كل مجتمع يتجسد في قدرته على التكامل والتعاون، ومن هنا فإن كل اجتماع بشري هو في الأصل تصرف حيال عدم قدرة أي فرد على الاستغناء بذاته عن الآخرين، إذ لابد له وبحكم الضرورة الطبيعية الإنسانية أن ينخرط في تعاطٍ مدني مع أشباهه وأغياره، فيساهم قدر ما يستطيع في التطوير والتنمية والبناء بكفاءاته الخاصة، ويستفيد في الوقت ذاته من كفاءات الآخرين التي تعوزه وتتجاوز قدراته، وهو ما تحاول الجماعات والتنظيمات المتطرفة تغييبه وتهميشه واستبداله بأفكار أحادية إقصائية ترتكز في مجملها على عزل ضحاياها عن محيطهم، وتحويل سياقات ومسارات النشاط المجتمعي من حولهم، إلى سياقات خاصة قاصرة على عناصرها فقط، ما يحدث في الأخير نوعًا من الشقاق والفجوات في التواصل الإنساني والتمييز المرتكز على أسباب عقائدية أو عرقية، ما يتسبب في اندلاع الصراعات، بدلًا من ارتفاع مستوى التعاون والتضامن بين المكونات المجتمعية كافة على هدف أسمى يتمثل في نهضة المجتمع وتقدمه، وفي ذلك نقاط نوجزها فيما يلي:
- أولًا: تعمد الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية إلى الترويج لمفهوم مغلوط قائم على محاولة الإيحاء بأن قوة المجتمعات المُستهدفة إنما هو رهن بقوتها، وأن كل ما يخالف أفكارها وإيديولوجياتها هو تهديد لاستقرار تلك المجتمعات ونهضتها، وهي آلية يرتكز عليها الفكر المتطرف أينما كان وأيًا ما كانت أهدافه التي تتفق جميعها على العمل بشكل مكثف في محاولة اختزال كل مكونات المجتمع في ذات عناصره، وتهميش وتشويه باقي المكونات، مع تغييب متعمد لكل القيم الإنسانية الداعية إلى التعاون والتضامن والتعايش والتسامح.
- ثانيًا: يتبنى الفكر المتطرف إستراتيجية تدميرية قائمة على محو التجانسية بين الكفاءات المجتمعية المختلفة، حيث تعمل جماعاته وتنظيماته على منع تحول المجتمع إلى شبكة دينامية من تبادل المصالح، أو من تطوير القدرات والكفاءات بالشكل الذي يُثري في الأخير من قدرات المجتمع في مواجهة أية تجاوزات تطال ثوابته ورؤيته حيال صناعة واقع مشرق لأجياله الحالية أو المستقبلية، وهو ما يُفسر في جانب كبير منه حرص كثير من المجتمعات المتقدمة على تنويع مجالات التنافس والتحرك في مسار نمائي متطور، إدراكًا منها بأن الأحادية والإقصائية التي تتبناها الإيديولوجيات المتطرفة إنما هي في الأخير إستراتيجية تهدف إلى هدم أركان المجتمع وتدمير كل مقومات نهضته وتقدمه.
- ثالثًا: يهدف الفكر المتطرف ضمن سياقاته المختلفة إلى نشر الفوضى، وإرباك منظومات التواصل داخل المجتمع الواحد، بالقدر الذي يتيح لجماعاته وتنظيماته تقويض النظام المجتمعي في توزيع المهام واحترام الأدوار، ليحل محله التطاول وتهميش الكفاءات لصالح أخرى غير فاعلة، لذا ينبغي رفع الوعي حيال تحديد الفارق ما بين التنافس والتطاول على المهام، فإذا كان المبدأ الأول يطور كفاءة أداء الواجبات من خلال تفوق معترف به في المجال المطلوب، فإن التطاول الذي تحاول الخطابات المتطرفة الترويج له هو مجرد تشويش على مسارات تحقيق الأهداف، وإعاقة وتثبيط لهِمَمِ ذوي الاختصاص من مختلف الكفاءات.
- رابعًا: إن التنوع والتطور والتنافس والتعاون داخل المجتمعات الحضارية الكبرى أمر مهم ولازم، حيث يحتاج المجتمع إلى التعاون في مكافحة الأفكار المتطرفة الإقصائية والأحادية، ويحتاج أيضًا إلى إثراء الكفاءات المختلفة والمتنوعة، وإلى انضباط لسياسة توزيع المهام، وتحديد دقيق للمجالات والصلاحيات، وهو بهذا المعنى يحتاج إلى كل أعضائه دون تفرقة أو استخفاف بهذا الطرف أو ذاك، حيث لا يمكن بأي حال أن يستغني أي طرف عن الآخر إلا على حساب جودة المجتمع ورُقيه.
- ختامًا: إن الوعي في المجتمعات هو أساسي ومحوري، وتجربته لابد وأن تكون جزءً من المشروع المجتمعي العام، وهذا ما يساهم فيه المفكرون بشكل فعال عبر انخراطهم بمسؤولية كاملة تجاه أوطانهم، وتجاه دورهم الفعّال حيال مواجهة ومجابهة وتفكيك وتفنيد وكشف كل حيل الخطابات المتطرفة التي تستهدف حق الأجيال الحالية والمقبلة في العيش وسط مجتمعات آمنة مستقرة ومتقدمة.