اعتدال

Edit Content
  1. الرئيسية
  2. إضاءات
  3. أفراح يعاديها المتطرفون

أفراح يعاديها المتطرفون

إن خطاب الابتئاس والسوداوية وكراهية مظاهر الفرح والجمال هي من أسوأ صفات التطرف، بل إن التنظيمات المتطرفة تُزايد على بعضها البعض في إظهار هذه النبرة المتشائمة الكئيبة حيال الناس والحياة والأحداث، وتعتبر أن المرء كلما كان مُسْتَوحِشاً من حياة الناس الطبيعية، ومُدينا لمظاهر الحياة والفرح، إلا وزاده ذلك درجة في دركات التطرف التنظيمي، ولذلك في سبيل  تحصيل هذا الفضل المزعوم والتفوق المعكوس، فيتنافس دُعاة التطرف لأجل ترسيخ هذه النبرة البكائية والخطابة الرثائية في مطبوعاتهم وصوتياتهم ومرئياتهم، التي ملأت المشهد العام لردح من الزمن بكل ما من شأنه أن يحبط الرغبة في الحياة المعتدلة والطبيعية، وأن يشجع الانفعالات المعيقة للاندماج الاجتماعي السليم، وهذه الأدبيات والعوائد في القولِ والنظرِ هي التي ساهمت الثورة الرقمية مع ظهور المواقع الإلكترونية التفاعلية، وشيوع منصات التواصل الاجتماعي، في جعلها تصل إلى جمهور أوسع، مُعرضةً إياه إلى مفعولاتها السلبية، خصوصًا مع إعادة تدويرها وإخراجها وحقنها مخلوطةً بمؤثرات صوتية وتقنية جديدة.

في كل الأحوال، خلف كل البهرجات الرقمية التي تحيط بالمواد المتطرفة، والتي هي أقرب ما تكون إلى نوع من ألاعيب سجع الكهان الذي لا يمكنه  أن يخفي ضحالة الأطروحات التي يروج لها المتطرفون، هناك نفسُ النبرة البكائية التي يتناقلها المتطرفون جيلًا بعد جيل، وذلك إلى الحد الذي يسمح لمتابع الحياة الرقمية للتنظيمات المتطرفة، أن يتخذ من أفراح الناس مؤشرًا على استباق واستشراف ارتفاع حجم المحتويات المتطرفة على الشبكة، ومرد ذلك بكل بساطة إلى أن أفراح الناس مهما كانت مشروعة تستفز هذه الخطابة البكائية للمتطرفين، مما يجعلها  “رد فعل شرطي” يتفاعل بشكل شبه أعمى مع المؤشرات الإيجابية في حياة الناس. فما هي الأفراح التي تستفز بحدة الآلة الخطابية للتطرف، فتجعلها تفرز كل تلك السوداوية التي تبثها على شبكات التواصل الاجتماعي :

أولًا: الأفراح تلك التي تتعلق بالاحتفاء بالأوطان وبما يتعلق بها من أيام وأعياد تخلد أحداثًا تاريخية مفصلية وملحمية في حياة الشعوب؛ إن حماسة الناس لأوطانهم لها وقع استفزازي كبير على حساسية المتطرفين، وهذا ما يوقظ أوجاعهم وبكائياتهم، حول تلك الأخبار الزائفة التي يروجون لها منذ بداية القرن العشرين، عن مؤامرات ومعاهدات ومساومات لا توجد إلا في رؤوسهم، وعوض أن يفهموا مسألة نشوء الأوطان بمنطق قوانين التاريخ العميقة والثابتة، تراهم يُغرقون شبكات التواصل بقصصهم المزيفة، التي يملؤونها بشخوص يصطنعونها من أضغاث أوهام ليستجدوا بها تعاطف الناس، ولكي يدينوا على أساس مَحْكياتهم أوطانهم بما من المفترض أن يكون مدعاة للفخر والاعتزاز، ولهذا إن فرح الناس بالأوطان يشوش على هذه الحواديث النازفة، التي كان يعول عليها المتطرفون كثيرًا لإحداث ثقوب في الذاكرة الجمعية للشعوب، لكن يقظة هذه الأخيرة أعطتها مناعة ضد خطاب التطاول على الأوطان، كما أنها أدركت بأن قوة الإنسان رهين بقوة الأوطان.

ثانيًا: الفرح الذي يخص الاحتفاء بالحياة عمومًا، لأنه أصبح من المؤكد أن التطرف هو مرض في غريزة الحياة، ولهذا فبقدر تطرف الشخص بقدر شغفه بالموت واستخفافه بحياته وحياة المحيطين به، ومن مظاهر الاحتفاء بالحياة الحرص على الرُقي الاجتماعي، والتمتع بكل ما يُتاح من مكاسبَ مستحقة للناس، في أن يترفهوا ويرفهوا على أنفسهم بملذات الحياة الكريمة والطيبة، وهذا ما يراه المتطرفون إخلالًا بنوع من الرهبنة الزائفة التي تراهم يرفعون شعاراتها، وكم تفضحهم كواليسهم الخفية، حينما نجدهم خلالها أحرصَ الناس سرًا على ما يدينونه جهرًا من مثل هذه المتع. إن نماء البلدان والعناية بالحياة، والمشاريع الواعدة بمزيد من التنمية والرفاهية، ودفع الناس إلى بذل الجهد للانخراط في المشاريع التنموية الكبرى، والتسلح بروح الإعلاء من قيمة العمل والاستثمار والنجاح، تُقابل في خطاب المتطرفين بتوجع حزين يسعى إلى نشر اليأس والإحباط وعرقلة سعي الناس إلى خدمة مصالحهم بالمزيد من العمل، وهكذا بقدر ما تبني الشعوب ثرواتها وبلدانها، بقدر ما يبذل المتطرفون مزيدًا من الجهد كي يقوموا بتخريب ما تطوله قدرتهم، وعلى الخصوص أن ينقضوا القيم الحضارية التي تقوم عليها محبة الحياة، ولذلك حينما تتمكن التنظيمات المتطرفة من اختراق مسار شباب ناجحين في حياتهم، وتنجح في السيطرة عليهم ودفعهم إلى تدمير حياتهم بلا طائل وبشكل عبثي، فقط لكي يخدموا رؤى عدمية لأعداء الحياة، فهي تعتبر ذلك إنجازًا تفاخر به، إذ بينما يعتز الناس بقدرتهم على البناء وصون الحياة، تتفاخر التنظيمات المتطرفة بقدرتها على الهدم وعلى تبديد الحياة.

ثالثًا: أما الفرح الثالث الذي يجعل المتطرفين يقعون في نوباتهم البكائية، فهو ذلك الذي يتعلق بالقيم الجمالية؛ إن الجمال من حيث المبدأ هو مسألة مُشَيْطَنةٌ حسب الذهنية المتطرفة التي تراهن على بلادة الذوق وجلافته، كي تمرر مقولاتها الدموية الوحشية، ونزعتها المضادة للحضارة، لأن تصور المتطرفين للعالم قائم على رؤية كارثية، فكل متطرف يُحَضِّرُ ضمنيًا العالم للنهايات العظيمة، وهذا موقف لا يخص دين دون آخر، بل إن كل المتطرفين هم في انتظار المعركة الكبرى التي ينبغي أن تمثل لحظة قتل شمولي، لن يبقى إلا أتباع تنظيم بعينه باعتباره الفرقة الناجية، وحسب هذا الفهم، فإن العالم ينبغي أن ينظر إليه كلعنة علينا أن نسعى لنشرها من خلال إشاعة ثقافة الموت، وهكذا فإن إفقار الحياة إلى مظاهر الجمال الفني، وإسقاط الكآبة على كل زوايا هذا العالم هو ما يسهل علينا كراهيته والاستخفاف به أكثر فأكثر، وبالتالي إن ذلك يحضرنا للقبول بتدميره كي نتحرر من شبائكه الشيطانية، متناسين أن الأصل هو النظر إلى الحياة والعالم كنعمة ينبغي التملي في دقائقها الجمالية، والاحتفاء بكل لحظة من لحظاتها كفرصة لا تعوض، لكي يحقق الإنسان فاعليته وإبداعه، وتُعد الفنون الجميلة أحد المظاهر الأساسية التي يعبر بها الإنسان على ما يملك من كفاءات وملكات ومواهب تتجاوز الوظائف الطبيعية، لتعانق مُثلًا جمالية كبرى، تشهد على أن الإنسان لا يحتاج فقط إلى الضروريات التي قد تكفي الكائنات الحية الأخرى، بل إنه يملك حاجيات جمالية وفكرية توجد في مصاف أفق يحتاج المرء إلى تكوين وتدريب كي يصل إليه، و كي يخرج من تلك الجلافة التي يروج لها المتطرفون، وبالتالي إن العناية بالعمارة وبالفنون الجميلة هي حق للشعوب على دولها، حتى يمكنها ذلك من حيازة القدرة على التمتع بمِثل هذه الجماليات التي يقْصُر على بلوغها أولئك الذين يسجنون أنفسهم في قوقعة التطرف الضيقة.

ختامًا: يصح القول على أساس ما سبق، أن إشاعة الفرح بين الناس، وتنمية ملكته لديهم هي إحدى طرائق مواجهة سوداوية المتطرفين وكآبتهم. إن الاحتفاء بالأوطان هو ترياق لبؤس الغربة التي يحشر المتطرفون فيها أنفسهم باستخفافهم بأوطانهم، والعناية بالحياة وصونها والاحتفاء بها وبصحتها  وبالنجاح الاجتماعي هو رد مفحم على دعوات التطرف إلى قيم الموت والانتحار، كما أن العناية بالجماليات بمختلف مظاهرها هو تحصين للنفس من تأثير التطرف على رقي أحاسيسنا وتحضرها، فبقدر ما تمتلئ القلوب بالعرفان والسلام والفرح بقدر ما يبور سوق التطرف الذي لا تروج بضائعه إلا بسيادة البؤس، فمزيدًا من الفرح إذن.