يلعب دُعاة التطرف على أوتار التاريخ، تدليسًا واختلاقًا وانتهازيةً، وذلك لأن كل متطرف هو في الواقع نتاج عدم توازن في الانتماء الزماني والمكاني؛ إنه كائن معزول ومفصول عن واقعه الحي، بفعل سرديات لا يتوقف عن توليفها وتأليفها، فهو يستخلص منها العداء والحقد حينما يشاء، ويجعلها تشهد بمشروعيته حينما يسعى إلى تبرير وجوده الطارئ في مشهد الحياة، ويعد التاريخ التخييلي والملحمي الذي يوزع عبره المتطرفون الأدوار والتهم والمناقب والمثالب، آلة حربية خطرة في معركتهم التضليلية الكبيرة التي يعتبرها دُعاة التطرف عاملًا تعويضيًا عن فشلهم الميداني، من خلال اختلاق قصص تاريخية مضللة، تجعلهم يلبسون أقنعة وهويات لا أصل لها إلا في تاريخهم المتخيل الذي يسعى إلى تعويم الانتماءات الوطنية من خلال شعارات رنانة لا تمت للواقع بصلة.
وتكمن مفارقة التطرف في هوسه بالتاريخ المتخيل على حساب التاريخ الوقائعي الذي يترك آثارًا تقوم كشواهد فعلية قائمة على الأرض، وعوضًا عن ذلك يشغف المتطرفون أكثر بالتاريخ المبني على السرديات التي ترتب وقائع مفترضة على أساس أسانيد من الصعب البت في مدى حياديتها وموضوعيتها، وهي تبسط أحداثًا تفصلنا عنها قرون عديدة؛ ولهذا فإن المتطرف على العموم ينظر إلى الآثار بنوع من الحذر والتشكيك اللذين يمنعانه من رؤية عمق الحضور الفعلي لما تبقى من الحضارات السالفة، وبدل أن يبذل جهدًا لكي يدقق شواهدها حينما يتعلق الأمر بمآثر ملموسة، أو دراسة النصوص القديمة حينما يكون حيال وثائق مكتوبة، يكتفي بأن يحشر كل ذلك بدون أي احتراز أو تريث داخل مروياته العجائبية، لكي يختلق منها أخبارًا وحكايات يبنى عليها تصوراته الضيقة للماضي والحاضر ومن ثمة للمستقبل.
وللمزيد من التشويش على العمق التاريخي للشعوب، يمارس دُعاة التطرف نوعًا من الطمس والمحو على التواريخ المحلية للشعوب، وذلك باسم تاريخ كوني يقدم على أساس أنه أصل كل الحقائق، وأن تفسير أي موقف ينبغي أن ُيستمد منه بعيدًا عن الخصوصيات السياقية الخاصة بكل شعب على حدة، وبهذا يتمكن المتطرفون من التسويق لهوية عابرة للأوطان، بل إنها في العمق معادية لفكرة الأوطان من الأساس. يمكن القول إذن، إن الكونية الأممية التي يروجها المتطرفون في أدبياتهم، ويجعلونها أساسًا ضد الدولة الوطنية، هي في الواقع نتاج ما نسجوا من تاريخ حكائي – أو حكواتي- جعلوه يلعب دور حجاب مسدل يحيل بينه وبين العمق التاريخي للدولة الوطنية، الذي هو جزء أصيل من ذاكرة الناس ومن حياتهم الثقافية واللغوية والسياسية، لصالح تاريخ لا يحترم ضوابط الزمان والمكان، ويقبل حشوه بما اتفق من أحداث لأجل استعمالها في أغراض الفوضى التضليلية العامة خصوصًا في ظل انتشار المحتوى في شبكات التواصل الاجتماعي.
ولمواجهة إستراتيجية تعويم الهويات الوطنية التي تعتبر مدخلًا أساسيًا للاستقطاب نحو الإيديولوجيات المتطرفة، يكفي أن نعيد الاعتبار للتاريخ المحلي للشعوب، كي نوجه ضربة قاسية فعلًا للآلية الدعائية لدُعاة التطرف؛ فبقدر ما يفهم الناس خصوصية تاريخهم المحلي، وبقدر ما يستوعبون عظمة منجزات أجدادهم لصالح أوطانهم، بقدر ما يتقوى إحساسهم بالانتماء والامتنان إلى عمقهم التاريخي الخاص، وهذا سيجعل أي عملية استعداء ضد أوطانهم أمرًا مستفزًا لنخوتهم الوطنية، ولا يعني هذا بأي حال أن الحس الوطني القائم على الوعي بالخصوصيات المحلية، سيأخذ صورة عصبية منغلقة ومتطرفة، لأن التطرف هو دائمًا وليد الجهل، والتأويلات المنفصلة عن سياقها التاريخي، بينما الإدراك الكامل لتفاصيل التاريخ المحلي، وفهم الإنجازات التاريخية الواقعية لكل وطن على حدة، يسمو بالفرد عن الانخراط في المزايدات الوهمية حول الذات، ويصبح أكثر نضجًا ووعيًا وموضوعية، ولهذا فإنه يحوز بذلك تجربة فعلية لمواجهة التحديات بروح العمل، وليس بمنطق الانفعالات التي تتحول في الغالب إلى وبال على المجتمعات التي تخترقها. فكيف نعيد إذن الاعتبار لهذا التاريخ المحلي؟ وكيف نواجه حملات التشويه والتشويش والتعويم للهويات الوطنية القائمة بشدة في شبكات التواصل دون أن نقع في التعصبات الوطنية الضيقة التي تنتهي إلى معاداة للثقافات الأخرى:
- أولًا: ينبغي أن ننظر إلى المتاحف كأماكن نتعلم فيها بالإضافة إلى رؤية امتدادنا التاريخي عبر العصور، التشبعَ بالعرفان لكل من سبقنا في هذا الوطن وساهم بالقليل أو الكثير في بناء إرثنا التاريخي؛ إن المتاحف سواء في شكلها التقليدي الذي يحرص على تجميع شواهدنا التاريخية المختلفة، أو في صورتها الحيّة التي تتشكّل من مآثر أخضعت لعناية الترميم، أو أُخرجت من أنقاض النسيان الثقيلة، وفُككت رموزها ورسائلها التي وصلتنا عبر الأجيال، كلها تعد حماية لذاكرتنا من النسيان، وبالتالي فهي تحصّن عقول الشعوب من التحايل التاريخي. لهذا ينبغي بذل الجهد الكبير على جعل زيارة مثل هذه الأماكن جزءً من مسار التكوين المعرفي والتعليمي للفرد، ورافدًا لتقوية الشعور بمدى عظمة الوطن الذي منحنا هويتنا الثقافية، وبصمتنا المميزة عن باقي الأوطان الأخرى.
- ثانيًا: من الخطأ أن ننظر إلى تاريخنا المحلي بأنه مجرد لحظة عابرة وملحقة بتاريخ أكبر، وعلينا أن نمنع بناء فخامة التاريخ العام على حساب تبخيس تاريخنا الخاص، فمثل هذه المقاربة تنتهي في الغالب بإضعاف الحس الوطني، والتطبيع مع خطاب جلد الذات لصالح أجندات تأخذ في كل مرة اسمًا جديدًا، وترفع راية مختلفة. إن نجاحنا في بناء هوية وطنية محلية سيكون مرهونًا بأن ننظر إلى الوقائع العامة من منظور خصوصياتنا التاريخية المحلية، فليس من المعقول –مثلًا- أن ننخرط في عداءات عابرة للقارات، فقط لأن التاريخ المتخيّل الذي يروج له دُعاة التطرف يحشد حماستنا بحكم وقائع لا شواهد عليها في أرض الواقع، ولا يفيد هذا نهائيًا القول بأن الانطلاق من التاريخ المحلي هو قطع مع التاريخ الحضاري العام، بل القصد من ذلك أنه من غير المعقول تمامًا نقض الهوية التاريخية الوطنية بسبب حسابات ضيقة تنبني على سرديات الإخباريين الجُدد، والتي باسم مُثلها الزائفة تعتقد أنها قادرة على جعل الشعوب تقبل التطاول على رموزها التاريخية أو التحايل على سيرورة تاريخها الخاص. ولهذا إن التاريخ المحلي يمكن أن يُقدم في إطار قراءة تفاعلية مع تواريخ محلية أخرى تحافظ جميعها على هويتها وخصوصيتها، وبفعل ذلك تُشكّل في مجموعها تاريخًا كونيًا يحترم مساهمة الجميع في تكوينه، عوضًا أن يكون وسيلة لتذويب الهويات في بوتقة هوية مجردة مفصولة عن الحياة الحقيقية للشعوب، ومختلقة من الحكايات التي اخترعها دُعاة التطرف لنشر خبثهم وسمومهم. إن التاريخ هو دائمًا وأبدًا تاريخ وطن ما يساهم قدر ما يستطيع في تشكيل التاريخ الإنساني.
- ثالثًا: إن التعددية التاريخية هي ما يُمثّل الغنى الحضاري لنا، وجرد التاريخ الوقائعي الآثاري بطرق علمية، والعناية بما يكشفهُ لنا هو في الواقع حفاظ على رأس المال الثقافي، ولهذا فإن تشجيع المشاريع لعلم الآثار بأن تذهب في أبحاثها إلى أوسع مدى، هو الوسيلة الوحيدة لتجنب سياسة التفقير الثقافي الذي يمارسه دُعاة التطرف، والتي تحاول في مكر أن تختزل كل التاريخ إلى لحظات مجتزأة من سياقها، ومختلقة في أغلب مكوناتها السردية، لأجل خلق نوع من المجال الهلامي والرمادي للانتماء، مما يسهل عليهم –دُعاة التطرف- تقديم أنفسهم كفضاء شامل للهويات التي تنسكب جميعها حسب هذه الخطة في القوالب الإيديولوجية الجاهزة مسبقًا. لهذا، فإن الحرص على تدقيق ملامح الهويات الوطنية بالمزيد من الكشوفات والدراسات الرصينة، لهو كفيل بأن يمنع وقوع الهوية الوطنية في هذه الهلاميات الخطرة.
- ختامًا: هكذا يمكن القول أننا كي نحمي هوياتنا من خطر التعويم والتشويش والتشويه، سيكون علينا الحرص على العناية بالمتاحف التاريخية والآثار المحلية، منعًا للمجتمعات من فقدان الذاكرة الجمعية، كما يلزم أن نحصنّ رموزنا الوطنية من أي تطاول مهما كان مصدره، وذلك بمنح تاريخنا الخاص أولوية مطلقة على أي قراءة تاريخية شمولية، وأخيرًا علينا أن ننظر إلى أنفسنا كجزء حيوي من التاريخ الإنساني، عوض أن نتعامل مع هوياتنا كترسب ناتج عن عوامل خارجية، وبهذا تصبح استراتيجيات دُعاة التطرف لا قيمة لها ولا محل بالنسبة إلى وعينا التاريخي الفعلي وهويتنا الوطنية.